مقدمة “كتابات في الطب والموسيقي والأدب”

مقدمة كتاب “كتابات في الطب والموسيقي والأدب” لمؤلفه البروفيسور أحمد محمد الحسن ..
++++
السطور التالية هي مقدمة الكتاب المذكور أعلاه والذي تم تدشينه باتحاد الكتاب السودانيين السبت 17 رمضان الجاري، الموافق للثاني من يونيو الجاري
القارئ الكريم والقارئة الكريمة،
أرجو أن أقدم في السطور التالية بعض الإضاءات عن الكتاب الذي بين يديك، وهو كما يشير عنوان الكتاب يحوي كتابات في الطب والموسيقي والأدب. وللحق فإن جزء كبيراً من هذه الكتابات هي في واقع الأمر تأملات الكاتب في أحوال العالم حيناً ورجوع بالذاكرة إلى عهد الصبا الأول في مدينة بربر مسقط رأس المؤلف، مع ما يصاحب ذلك من ذكر أحوال الناس في ذلك الزمان في نهايات الثلاثينات وبدايات الأربعينات من القرن المنصرم.
يمتلك المؤلف ذاكرة وقادة ورؤية ثاقبة لم يكتف صاحبها بالركون لظواهر الأشياء، بل درب نفسه منذ الصغر على التطلع لرؤية ما خلف الأشياء. وربما كان ذلك من أولى صفات الباحثين والعلماء، والبروفيسور أحمد واحد من أعظمهم وأجلهم في السودان في مجالات مختلفة من أبحاث الكلازار والجذام والمايستوما وعلم الأمراض وغير ذلك. أذكر هنا ما رواه لي المؤلف نفسه ذات مرة من أنه وهو في سن الثانية عشرة من العمر كان يحصل على مطبوعات مختلفة عبر المراسلة مع بعض دور النشر والتوزيع المصرية، وكان ذلك في بداية الأربعينات، بل أنه أكمل دورة كاملة وحصل على الإجازة في علم النفس وقتها. بعد ما يقارب الستين عاماً من ذلك وفي زيارة للقاهرة العاصمة المصرية أخبرني البروفيسور أنه قصد ذات دار النشر التي كانت قد أغلقت أبوابها بعد مرور هذه السنوات لكن البناية بل ولافتة الدار كانت لا تزال هناك فالتقط لها بعض الصور. أي حس بالتوثيق وأي اهتمام بالوصول بالأشياء إلى نهاياتها بل وأي شغف بالمعرفة !.
يحتوي الكتاب على مقالات في الطب وكذلك في سير بعض مشاهير العرب والغرب ورؤية المؤلف فيما قد يكون أصابهم من المرض بحسب وصفهم أو وصف الأطباء في ذلك الزمان لأعراضهم . وذلك باب في الكتابة وفي الاهتمام عجيب. بطريقة أو بأخرى يشير ذلك إلى تملك فكرة النظر إلى ما خلف ظواهر الأشياء بال المؤلف وإن لم يتقصد ذلك. كذلك يكتب البروفيسور عن الدكتور مأمون حسين شريف وعن البروفيسور محمد حمد ساتي، والاثنان وإن كانا من أعلام الطب في السودان وهناك بعض الكتابات عنهما، إلا أنه يمكنني القطع بأن لا أحد كتب عنهما بهذه الروح ? أعني روح المزاملة حينا وروح التتلمذ حينا آخر مما يعطي تلك الكتابة قيمتها رغم قصر المقالين لجهة عدد الكلمات أو الصفحات.
يجد القارئ / القارئة كذلك بعض كتابات البروفيسور أحمد المتعلقة بمعاش الناس. من ذلك كتابته عن موضوع داء السلكا وعلاقته بداء الصدر. مثل هذه المواضيع وان كانت معروفة لدي الأوساط العلمية وربما البيئية إلا أنها تغيب عن غمار الناس. وليس ذلك للجهل في غلب الأحوال، إنما لأن الناس لا يتصورون أن السلكا هي بعض مكون هذا الصخر الذي يفتتونه بحثاً عن الذهب آملين في تحسين أوضاعهم المعيشية. ومن ذلك أيضاً حديثه عن أضرار الأسبستوس الصحية، وكان الناس في السودان إلى وقت قريب يستخدمون الاسبستوس في كثير من أمور معاشهم، بل وأن مدنا كاملة (حلفا الجديدة) جري استخدام الاسبتسوس في تشييد أسقفها.
يحتوي الكتاب كذلك على مقالات في الموسيقي والغناء. وربما لاحظ القارئ اهتمام المؤلف بالموسيقى العربية وبتاريخ الغناء منذ عصور الإسلام الاولى وما بعدها. وفي ذلك إشارة إلى اهتمامات ذلك الجيل من المثقفين ومتعلمي السودان وقتها، إذ كانت الثقافة المصرية هي السائدة عبر وسائل الاتصال وقتها من المذياع ولاحقا التلفزيون وقبل ذلك الدوريات والجرائد. رغم ذلك يحمد للمؤلف متابعته لتطور المسألة وصولاً إلى ما صارت تنتجه المدرسة الغنائية السودانية في عصرها الحالي. وربما وجب على الإشارة هنا مرة أخرى إلى روح الباحث التي تتقمص الكاتب بطريقة لافكاك منها، إذ في سفرته للمغرب قبل عدة سنوات قصد البروفيسور ضواحي مراكش لزيارة ضريح ابن عباد وفاء لقصة كان قد قرأها أيام دراسته بالمرحلة المتوسطة بمجلة الفجر السودانية لصاحبها عرفات محمد عبدالله. يعكس ذلك بطريقة أو بأخرى مصادر الثقافة في ذلك الوقت والأثر الذي تركه في الناس رجال أفاضل مثل عرفات وآخرين تصدوا لنشر العلم والمعرفة رغم كل الظروف وقتها.
ليس بمقدور هذه المقدمة بطبيعة الحال أن تلخص كل الكتاب ولا ذلك هو غرضها علي أية حال، إنما وجب علي الإشارة إلى تلك المقالات عن بيوت القيان في العصر العباسي وملاحظة الكاتب وربطه لها ببيوت الانداية في السودان . بل أنه لمن العجيب أن يجد القارئ أن بيوت الانداية في السودان ورغم بعد المكان بل وبعد الشقة الزمانية، لها الكثير إن لم يكن ذات الموروث الثقافي لبيوت القيان، كان ذلك في أدب المنادمة أم في مفاهيم السقيا والشراب مع اختلاف لغة التداول على الأكيد. والحال كذلك فإنك لتجد بعضاً من مثل هذا التشابه في المفاهيم والقيم فيما لاحظه وكتبه المؤلف عن وجود صور سودانية في كتابات الجاحظ. وفي ظني أن ذلك يفتح باباً أو هو في الحقيقة يضيف شيئاً إلى النقاشات الدائرة والبحوث المتعلقة بمصادر الثقافة السودانية وذلك باب للحق كبير، تدخل فيه دراسات اللغويات والحفريات وأخيراً علوم الجينات والمجين البشري .
أود أخيراً أن أشير إلى أنه يحمد لمؤلف الكتاب اهتمامه بالكتابة والتوثيق بل واهتمامه بنشر أفكاره وكتاباته في الصحف السيارة كان ذلك أم في كتاب كما هو ماثل بين أيدينا الآن، لقد ظلت واحدة من نواقص مكتبتنا السودانية مثل هذه الكتب والأفكار التي رغم قوتها ونصاعتها تقتلها ثقافة المشافهة المتأصلة فينا. لا يفوتني وأنا أقدم للكتاب أن أشير للغة الرصينة والصياغة المحكمة التي كتب بها وذلك ليس بغريب علي البروفيسور أحمد محمد الحسن.
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..