مقالات سياسية

الشرطة أم دم الإنسان؟

مجاهد بشير

ربما تبدو المفاضلة بين مؤسسة أياً كانت، ودم الإنسان، مفرطة في الفجاجة للوهلة الأولى، لكن الإشكاليات التي تطرحها الظاهرة البشرية المركبة، لا تتيح أريحية الخيارات البسيطة دائماً.

الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما واجه معضلة المفاضلة بين جهاز الشرطة ودم الأبرياء أكثر من مرة خلال عهده، وكان الناس يرون مقاطع الفيديو التي توثق قتل بعض أفراد الشرطة الأمريكية لهذا الرجل ذو الأصول الأفريقية أو ذاك، بشكل يثير قدرا لا نهائي من الغضب في عروق أي إنسان حر، وحينما يأتي الدور على الرئيس أوباما ذو الأصول الأفريقية، تجده يعزي أسر الضحايا ويؤكد دعمه لأجهزة إنفاذ القانون..

يبدو أن موقع القيادة العليا، يفرض على صانع القرار الموازنة بين العديد من المصالح المتناقضة والحسابات والتقديرات، و أن يرقص على رؤوس الثعابين كما قال علي عبد الله صالح الرئيس اليمني الراحل معبرا ذات مرة عن صعوبة حكم بلاده..

هذه المواقف التي قد تبدو للوهلة الأولى في عين الناظر من الخارج مثيرة للغضب ورمادية التي لا تنتصر للضحايا، لجأ إليها خلال الأعوام الأخيرة بعض الزعماء الآسيويين، خلال تعاملهم مع حوادث تعذيب وقتل وإساءة معاملة بعض رعاياهم من العاملات المنزليات في بعض الدول الإقليمية الثرية، فالمتابع العادي حين يرى بشاعة الحادثة في نشرات الأخبار، يتوقع أن تصدر حكومة دولة الضحية قرارا فوريا باستدعاء كافة مواطنيها العاملين في الدولة التي شهدت الواقعة، لكن إدراك صانع القرار لحقيقة الفقر المدقع لفئات في مجتمعه، وعجزه عن توفير فرص عمل محلية بديلة لإطعام كل هذه الأفواه، يجبره على التعامل مع الواقع المرير، ويحد من الخيارات المطروحة على الطاولة، فتتم لملمة القضية والكبرياء القومية والإنسانية الجريحة بهدوء.

حتى دونالد ترامب، لم يفلت من ألغام العلاقة الدامية بين الشرطة والمواطنين ذوي الأصول الأفريقية، وعمد في إحدى الحوادث مؤخرا إلى ذات طريقة أوباما، تقديم العزاء الحار لذوي الضحية، والتعبير عن الدعم لأجهزة دولته.

قبل سنوات مضت، طرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خطة لتطوير وإصلاح الشرطة تتضمن انفاق ١٠ مليارات دولار، ومع كل حادثة جديدة لقتل وسحل وصفع وإغتصاب الشرطة لمواطنين أو أجانب في أمريكا وأوروبا والشرق الأوسط والسودان ونيجيريا وغيرها، تتأكد أهمية الإرتقاء بأداء جهاز الشرطة لأفضل المستويات المتاحة.

طبيعة عمل الشرطة تتضمن التعامل مع المدنيين المسالمين الملتزمين بالقانون، وكذلك مع مجموعات من المجرمين والقتلة وأصناف السفلة، ومع الفوضويين ومثيري الشغب الذين يستغلون التجمعات الاحتجاجية، ولابد للدولة بالطبع أن تضع قيودا مشددة على استخدام القوة المميتة في كافة الحالات، وتسنده إلى أشد الكوادر انضباطا، لكن لا مهرب في نهاية المطاف من منح صلاحية استخدام العنف لأحد ممثلي الدولة في الميدان.

وجود جهاز شرطة بدرجة عالية من الانضباط والتأهيل، يتمتع كوادره ببيئة عمل صحية بما في ذلك الأجر الذي يتيح الحياة الكريمة، والتجهيزات والضمانات المهنية، هو النموذج المثالي، ووجود مجتمع يحترم فيه كافة الناس القانون والنظام وقيم التعبير السلمي، دون شغب أو عنف أو استفزازات، نموذج مثالي كذلك، لكن في العالم الحقيقي، لا تتعامل عادة مع معطيات مثالية، بل تضطر غالبا لمواجهة أسوأ السيناريوهات، خاصة في الدول المتأخرة.

مزيج من القهر الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، والغبن والإحباط يشعل عادة المواجهات بين الناس والشرطة فيسقط الضحايا، برصاص جندي أو ضابط متهور دموي في ظاهر الأمر، لكن الرصاص الحقيقي يطلقه أولئك القادة الذين يفشلون في طرح الحلول الفعالة لأزمات مجتمعاتهم ويرتكبون أخطاء كارثية..
حكم وإصلاح الدول وتبني خيارات تؤثر على حياة ملايين البشر ليس لعبة يزاولها متدربون ومتخبطون، فالمشكلات العامة متشابكة في الغالب، ولا يمكن حلها دون رؤية شاملة وخطة محكمة وعزم، ولا يمكن النظر لعلاقة الشرطة مع المدنيين خارج أزمات السياق الاقتصادي والسياسي والثقافي والحضاري والقيمي العام.

من حق ذوي الضحايا إتباع الأساليب المشروعة للمطالبة بالعدالة، وحتى الاحتجاج السلمي بالطرق الحضارية دون قطع للطرق أو الجسور وإثارة الشغب والفوضى والحرب ضد الدولة. كما أن حياة الإنسان ليست لعبة، ويجب محاسبة أي شخص يثبت أنه اعتدى عليها عمداً أو على سبيل الخطأ الفادح في التقدير مثلا.

مقتل إنسان مقتل أمة، لا جدال على وجاهة هذه الصياغة المجازية للقضية من الناحية المبدئية، لكن نظرية الدولة تتضمن احتكار الحق في استخدام العنف المميت وفقا للضوابط الموضحة في القوانين الدولية والمحلية، وتقديرات القيادة العليا أو الميدانية، لذلك فإن الدولة لابد لها من الرشد.. فلا هيبة أو شرعية لدولة دون رشد.. وعندها لن يكون جزافاً القول بأن إضعاف الشرطة أو الجيش أو أي جهاز آخر هو مقتل دولة.. ومقتل الدولة هو مقتل حقيقي للأمة.. وليس مجازاً.

مجاهد بشير
[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..