مقالات سياسية

سيرة ذاتيَّة ..للشيخوخة !!

معادلات- علي يس

• شجرة الإكسير ، أو “نبع الحياة” .. أو ما شاء خيال البشر من أسلحة تفتك بالشيخوخة فتكاً ، و تفسح الحياة كلها لشباب متصل .. نبات ينبت على قمة جبل بعيد مجهول ، أو نبع ينبجس من ثنايا صخرة على أرض لم تطأها قدم .. أو نار تُصلي من يخوضها برداً و سلاماً و شباباً دائماً ..مئات الحكايا و الأساطير، كرّسها الخيال البشري لمواجهة عدو واحد لا مفر منه :الشيخوخة ..
• ولكن النهايات لم تكن – لكل أبطال هذه الحكايا – سوى إحباط يفوق إحباط الشيخوخة .. كل من قهروا الشيخوخة لقوا نهايات محزنة ، و تمنوا لو أنه كان أُخلي بينهم وبين شيخوخة هادئة ، يلقون بعدها الموت بلا أسف .. لأنهم حين استمدوا الشباب متصلاً ، لم يدروا ماذا يفعلون به ..!! كل ما يستحق أن يُرى رأوه .. و سمعوا كل ما من شأنه أن يُسمع .. فقدوا القدرة على الإندهاش !! و الشيخوخة هي أن تفقد القدرة على الإندهاش .. هي ألاّ تعود قادراً على رؤية شيء جديد في أشيائك القديمة ..
• والآن .. ها نحن نرى .. كم من فتى غض الشباب – بحساب الزمن – يكابد أثقال الشيخوخة و سأمها .. وكم من شيخ تجاوز السبعين ، ما تزال تحس – في ضحكته و تفاؤله و إقباله على الحياة – براءة الصبا الباكر ، و رونق الشباب الغض!! الأول – الشيخ ابن العشرين – يرى الدنيا و الأشياء كما تعكسها المرآة .. شيئاً مسطحاً ، بلا عمق ولا أبعاد .. مناظر قد تكون رائعة و موحية ، و لكنّ نظرة واحدة إليها تكفي ، فالنظرة الثانية لن تأتي بجديد .. و هكذا يحس صاحبنا ، بعد حين ، بأنه رأى كل شيء ، و اكتشف كل شيء ، و لم يعد ثمة جديد في الحياة !!!
• أما الآخر – الفتى ابن السبعين – فبإمكانك أن تضعه في قعر “زنزانة” ضيقة ، طوال ما تبقّى له من سنين على الأرض، و بإمكانك – بعد ذلك – أن تأتي لتحيته كل صباح ، ليحدثك ، محبوراً ، عن الجديد الذي اكتشفه في الزنزانة !! عن الصوت الجديد الذي سمعه يتسلل إليه عبر نافذة الزنزانة الضيقة !! عن الفكرة الجديدة التي أوحى إليه بها تقاطع قضبان نافذة الزنزانة !! عن التعبير الجديد الذي يعلو تقاطيع وجهك !!.. و أنت تستمع إليه ، سوف يعديك “الشيخ الفتى” بالدهشة حالاً .. و سوف تعلم حينها أن الدهشة – التي هي الشباب – شيء يترعرع فينا ، لا في الأشياء التي تدهشنا .. و يظل أمر الإحتفاظ بهذا الشيء ، أمراً من شأننا نحن ، لا من شأن الزمن !!.
• هذا المعنى ، هو ما كان يعبِّرُ عنهُ المسيح ابن مريم ، عليه السلام ، إذ مرّ و حواريُّوه بجيفة كلب ، ابتعد عنها الحواريُّون متأففين ، وهُم يبرّرون فرارهم بقولهم : (ما أنتن ريحه!!).. بينما توقَّف المسيح عليه السلام يتأمَّلُ جيفة الكلب ، معبِّراً عن إعجابه بما لم يرهُ الحواريون : (ما أجمل أسنانه!!)..
• تشيخ الأُمم ، حين تشيخ قلوب الناس فيها ..حين يردّهم قبح القبيح عن تأمل ما فيه ، و ما حوله ، من جمال .. حين تتوقف الأسئلة ، فتتوقف الدهشة ، فيتوقف السعي ، فيبدو اليوم كالأمس ، و الغد كاليوم ، جحيماً لا يستحق أن تنتظره !! تلك هي الشيخوخة !!!
(المواكب)

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..