مقالات سياسية

ورقة من ملف كلية الآداب

جعفر عباس

كنا كطلاب في جامعة الخرطوم منعمين ومرفهين، وكان هذا أيضا حال طلاب المعهد الفني الذي صار جامعة السودان، ومعهد المعلمين العالي الذي صار كلية التربية، كانت الدولة توفر لنا كل احتياجاتنا لنتفرغ للدراسة والتحصيل، وكان نحو 90% من طلاب جامعة الخرطوم يتقاضون مع بداية كل عام دراسي 13 جنيها كبدل ملابس، وإعانات شهرية تتراوح ما بين جنيهين و150 قرشا، ولم نكن مطالبين بدفع مليم واحد نظير الدراسة والسكن والطعام او السفر في الاجازات (كانوا يعطوننا تصاريح سفر مجانية بالسكة حديد وبدل نقدي لمن يسافرون برا بالحافلات واللواري)

وكان أساتذتنا قمما شوامخ، فعندنا في كلية الآداب مثلا كان هناك بروفسر عبد الله الطيب وبروفسر ماكميلان وبروفسر محمد إبراهيم الشوش وبروفسر تمام (علم النطق والصوتيات) وبروفسر عون الشريف قاسم وبروفسر غنيمي هلال وآخرون تسربوا من الذاكرة

محاضرات عبد الله الطيب كان يحضرها طلاب من مختلف الكليات وكنا نتخابث ونستدرجه ليسرح بنا في عوالم الشعر بعيدا عن أي منهج، فيدخل في حالة صوفية ويغرد ويحلق وعيناه متوهجتان، ونقع في حيص بيص في موسم الامتحانات لأن علينا ان ندرس المنهج بالرجوع الى مراجع المكتبة، ولما نبدي له قلقنا من الامتحان يقول لنا: لن يرسب إلا من نسأله عن امرؤ القيس الكِندي فيتحدث عن كندا

في ذات امتحان كان هناك سؤال إجباري فاجأني عن الطبيعة في شعر المتنبي وهو حبيب عبد الله الطيب، وكنت عملا بنظام التخمين spotting قد استذكرت شعر المتنبي الفلسفي، والمشكلة مع السؤال الاجباري تكمن في ان عدم الإجابة عليه تؤدي الى الرسوب العمودي، ولم أكن احفظ من شعر المتنبي في وصف الطبيعة سوى ابيات قليلة من قصيدة شعب بوان التي درسناها في المرحلة المتوسطة؛ وتوكلت على الله وشرعت في فهلوة ولولوة بالاستشهاد بما احفظه من تلك القصيدة ثم عقد مقارنة بينها وبين قصيدة الشاعر الإنجليزي وليام ويردسويرث “أنشودة الخلود Immortality Ode”، وجاء أكثر من ثلثي إجابتي باللغة الإنجليزية، ثم دعوت الله ان يلهم عبد الله الطيب الصبر الجميل فيعطيني ولو ثلث الدرجات المخصصة لذلك السؤال.
وبعدها بثلاثة أيام تم استدعائي الى مكتبه فقلت: الدوام لله وقل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا، ودخلت عليه ووجدت أمامه دليل الجريمة، فصافحني مبتسما وقال: غريبة أنك تحفظ من شعر ويردسويرث أكثر مما تحفظه للمتنبي، ولكن على كل حال أحسنت التصرف، وأحسست انك ربما متوجس لأن ثلثي النص الذي كتبته جاء بالإنجليزية فوددت طمأنتك بأن في “أمان”
في نهاية سنتي الأولى بكلية الآداب فوجئت باستدعائي الى مكتب جون أباظة (وهو أشهر نقاد شكسبير على الإطلاق)، وكان قد درسنا مسرحية ماكبيث لشكسبير.
وفور دخولي عليه اتهمني بأنني مارست الغش في امتحان الأدب الإنجليزي، ولما طالبته بالدليل بدأ يقرأ فقرة من ورقتي فأكملت قراءة النص وأنا بعيد عنه، ثم بدأ في قراءة فقرة أخرى فأكملت النص فنظر الي مندهشا وهو يقول: هل تحفظ هذه النصوص عن ظهر قلب؟ قلت: نعم، وتحفظ أيضا نصوصا من كلام الناقد برادلي A.C. Bradley فقلت: نعم، فقال لي: تستطيع ان تحفظ كل كلمة لشكسبير ولكن إياك وبرادلي هذا.. ابحث عن غيره.
ذلك زمان كانت لي فيه ذاكرة تشفط كل ما يعجبني وتختزنه، وإذا نظرت الى الصورة المرفقة ستصدق كلامي عندما أقول إنني دخلت الجامعة وعمري 15 سنة بسبب النبوغ المبكر، وبهذا أكون صادقا عندما أقول ان عمري اليوم 39 سنة وانني صبغت شعري باللون الأبيض خوفا من العين وخوفا على النساء من الفتنة

‫3 تعليقات

  1. سلمات استاذنا الجليل.
    ذكريات جميلة وصادقة ونبيلة.
    ياالله نسألك سؤال انتو قدمتوا شنو للشعب ده.غير فشل من دونه فشل من فوقه فشل ومن تحته فشل.في كل المجالات اقتصاد؛سياسة؛اجتماع حتىى الكورة.الان حصص الحق.دايرين حق اي قطعة باسطة انتوا اكلتوها وان شاء الله ماتنفعكم.خربتوا الاقتصاد .ونقلتوا معاركم في الاركان الى حلبة الصراع السياسي.قتلتم زملاءكم خصومك.سرقتم مال الشعب.توددتم الى حسناوات(وفي اقوال اخرى قبيحات)البيوت الطائفية.والمالقى حصل بنات محمود.وتزوجتموهن وانتم تهبطون وتحسبون انكم تصعدون.
    الان نطالبكم بااي قطعة باسطة او اي وجبة special.او تذكرة قطر او حتى اي امتياز اجتماعي….والبل جاييكم.

  2. واین د. عزالدین الامین ود. صلاح الملیك , وبعدین لا تفتخر بهذه جامعتی فاین الولد الان ؟!

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..