مَنْصـوْر خَـالِـد: خَطـَراتٌ ناعِمَـةٌ في الثقـافةِ والفَـن

1- مفتتح الكلام :
أقلّ قراءِ منصور توغلاً عميقاً، في كتبهِ كثيرة الصفحات، أو في مقالاته القصيرة، لن تُخطيء أعينهم ذلك الحرص من قبله، على الالتزام بلغةٍ بلغتْ شأواً عالياً من الدّقة والحصافة والبهاء. إنّ أكثر من يتناولون التأريخ الاجتماعي أو السياسي لبلدٍ ما، ينحون إلى الاهتمام بالوقائع والأحداث، دونَ كثير اعتناءٍ عند أكثرهم، بأسلوب الكتابة، بلاغةً وتجويدا. عند منصور تجد أنّ كتاباته في التاريخ الاجتماعي والسياسي، تعتمد أسلوباً أدبياً راقياً، يأخذ من اللغة أجمل كلماتها، وأقواها سحراً وجاذبية، مُستعيراً من تراثها النثري والشعري، ما يضفي على مقاصد وصفه وتحليلاته، القوّة في الحجّة، والسداد في الإقناع. وهو بذلك يُذهب عن ذلك التأريخ جفافَ السرد، ويُبعد عن تلك الوقائع رتابتها. ولربّما اختلفَ معه مَن طالع آراءه وبعض حججه، أو بعض مرامي نقده السّاخر، لكن يظلّ ذلك المُطالعُ أسيراً للغةٍ، بلغتْ درجة سامية من السلاسة والجمال والشاعرية، وهو ما قد حقـق لمنصور تميّز أسلوبه، وفرادة بنيان عباراته، وأكثرها ? كما نلاحظ-هيَ من نحتِ قلمه، ومن تلاوين حبره. إنك إنْ قرأتَ بضعة أسطرٍ من مقالٍ لمنصور، فستعرف بصمة أسلوبه بيّنةً، قبل أن تقرأ اسمه على ذلك المقال. لإن استسهلَ بعضُ الصحافيين، وأكثر من دبّج المقالات والكُتب التي تناولت قضايا التاريخ وأمور الوطن، الكتابة بلغةٍ خلتْ من لغة الإبداع الأدبي، فكأنّ اللغة الأدبية السامية الرصينة عند هؤلاء، هي وقفٌ على الأدباءِ كُتاب الروايات وناظمي الشعر. أما عند منصور، فإنك تجد حرصاً على سموّ اللغة قد يفوق حرص كتّاب الأدب والروايات على ذلك السموّ. ولقد ميّز منصور أسلوبه ببيانٍ ناصع، منذ نشره مجموعة مقالاته التي ضمّنها لاحقاً أول إصداراته، وهو كتابه الشهير? حوار مع الصفوة”.1 فهو وإن استند على إرث في الأدب العربي تليد، تجده يخاطب بلغة العصر، أفقاً مستقبلياً مُنتظرا.
كتبَ جمال محمد أحمد، وهو يُسهب بمقدمتيه لكتاب منصور ذاك، الذي صدر في أول طبعاته عام 1974:
(أثلجتْ غضباته صدور أكثر الشباب، لأنهُ واحد منهم، يتميّز عنهم ببيانٍ يقنع، يُعبّر عن ذاتهم كما يُعبّر عن ذاته، فهي تحسّ ما يحسّ، ولا تملك ما يملك هوَ من معرفة بتجارب عالمنا العربي والأفريقي يتصدّى لدقائق الحكم والإدارة والتعليم والثقافة. يستلهم تجاربه الثرّة يخيف الواحد بنشاطه الجسدي والذهني، تأتيك رسائله من أطراف الأرض يبث فيها مشاعره وأفكاره ويحدثك عن الذي قرأ من سياسة وأدب. لا ندري متى وجد الفراغ، وعن الذين لقى من أئمة الفكر والسياسة.)2
إنهُ حديث رجلٍ عرف منصور عن قرب، وعرف مِقدار مطالعاته في مختلف أحوال الفكر والثقافة والسياسة. ذلك ما يفسّر موسوعية ذهن منصور وتجلياتها في كتاباته الفكرية، يرصّعها بهوامش مرجعية، وبإحالات فيها من التراث المعتق، مثلما فيها من إشارات إلى محطات الفكر المعاصر. تحمل هوامشُ كتاباته ما يحمل المتن من فوائد إضافية. .
سأعرض في هذه الورقة إلى خواطر لمنصور، حول اهتماماته الأدبية والفنية، ممّا صرّح به في بعض كتاباته، أو أشار إليه في حوارات صحفية عديدة أجريت معه، وممّا عرفتُ عنه من نظرٍ في هذا المجال. رصد الكاتب الصحفي عبد الماجد عليش بعض هذه الجوانب، وضمّنها كتابه: “منصور خالد: ملاحظات، أسئلة بدون إجابات”. (2014) 3، والذي اعتمدتهُ مرجعاً ضمن مراجع أخرى لورقتي هذه. تبدو أكثر هذه الخطرات، فارقة ولا تندرج ضمن نسق كتابات منصور السياسية، غير أنّها تعزّز في الحقيقة، من موسوعية اهتماماته الفكرية، وتجعل منه رجلاً يمشي بين الناس متماهياً معهم، بفكره ورؤاه ومزاجه. أتناول على التوالي بعض اهتماماته، محاور أربعة هي في الرثاء وفي “غناء الحقيبة” وفي أدب السيرة الذاتية وفي التشكيل والرسم والموسيقى.
2- في أدّبِ الرِّثاء:
جاء في القاموس المحيط رثى ورثوت فلاناً، بكيتهٌ وعدّدتَ محاسنه، وبين الرِّثاء والنّعي بونٌ واسع، إذ النّعي في القاموس هو الإنباء بخبر الموت فحسب. ومنصور يرثي أصدقائه المقرّبين، أولئك الذين أسهموا بقدر في الساحات العامة، فيرصد في رثائياته طرفاً ممّا خبر عنهم من محاسن ومساهمات، وَيُعدّ ما يكتبه إضافة تكمّل نظراته في التأريخ الاجتماعي لحركة التغيير في البلاد. والرثاء قد يبعد عن النظر الموضوعي، إذ يتناول المحاسن دون غيرها، ولكن برغم ذلك، فإن للرّصد وللتوثيق فيه مكاناً مقدراً وصادقا.
لعلّ أوضح تجلّيات منصور الأدبية السامية، وأسلوبه الجاذب الباهر، رأيتها متمثلة فيما قرأنا له من مرثياتٍ نثرية حميمة، عمّن عرفَ ولازمَ وصادقَ وقارب. وكتاباتُ منصور في أدبِ الرِّثاء-وهو جنسٌ أدبي أعطاه منصور من فحولة اللغة ومن ملكته الفذة في اصطياد الكلمات والمعاني اللؤلؤية قدراً كبيرا-هو ما يحسب إضافة غير مسبوقة لهذا الجنس من الكتابة. ولقد استصحب في رثائياته أسلوبه في التوثيق لجليل أدوار هؤلاء الرّاحلين، بما يكمّل نهجه في كتابة جوانب التأريخ الاجتماعي للبلاد، وفي ذات الوقت لا يحول ذلك دون التعبير عن مشاعر الحزن الجيّاشة لواقعة الرّحيل وللخسارة في الفقدان.
أحدّثُ هنا عن بعض نماذج منها بغية تبيان تلك المقاصد. لا أورد لك مرثياته الشهيرة، مثل تلك التي سطّرها في الأستاذ الشهيد محمود محمد طه، أو في نقيب الطّرَب السودانيّ أحمد المصطفى، أو في زرياب السودان خوجليّ عثمان. لكنّي أحيلك إلى بعض نماذج من رثائياته الباهرة.
كتب مُختزلاً يصفَ مِيتة صديقه السفير صلاح عثمان هاشم، وهو مُكبٌّ على كتابه:
( ولهذا فإنْ ماتَ صلاح وحيداً فما مات في وحدةِ الغربة، كما حسب بعضُ أهله وصحابه، بل مات مع جلسائه الذين اصطفى، وخير جليسٍ في الزمان كتابُ.. ويا لها من ميتة جاحظية.)4.
ثم تقرأ له عن الفنان التشكيلي السينمائي حسين شريف، فلا ترى دمعات تذرف بلغةٍ باكيةٍ فحسب، بل رؤية ثاقبة لأسلوب فنانٍ? يقتحم أحراش الواقع”: (.. كان مرسمه في القاهرة هو الواحة التي ألجأ إليها هرباً من عالم السياسة وهو عالم تحكمه شريعة، أفضل منها شريعة الغاب. داهمني نبأ وفاته وأنا في نيفاشا فبكيته في داخلي ولم أعزّي فيه أحداً غير إسماعيل عبدالله الفاضل عبر الهاتف، فإسماعيل أعرف بالحسين ممّن عداه. عند حسين في القاهرة، كنا نتحدث مراراً عن الفن والغناء، نتوقف عند من رحلوا منا وفي مقدمتهم علي المك وأبو داؤد. في مرسمه، كنت أتوقف كثيراً عندما يرسم لأن في تصويره اقتحام غريب لأحراش الواقع ) 5.
زاوية منصور التي ينظر عبرها إلى فاجعة الرحيل، زاوية مؤثرة فتخاله يحثك أن تقف معه عليها، لترى حميمية علاقته بالراحل الذي خصه بكلمات باكيات، فترى الفاجعة بعينيه. هو يستعيد الحميمية التي عاشها ورحلت مع من رحل.
كتب منصور عن الوزير السفير الرّاحل موسى عوض بلال:
(ما أكثر ما كنتُ أسعى إلي ذلك الصديق أبحث عن ما يُسلي كلما تكأكأت على الناس عساكر الهمّ في عهد الحكم الذي تشاركناه. . ذلك عهدٌ أتاح لنا أن نخالط الأبرار الأخيار، كما قضى علينا بأن نُعاشر قوماً آخرين لا يُرتجون في شِـدّة، ولا يصبرون عند كريهة، وبين أولئك كنت ورفاق آخرين، غريباً غربة أميّة بن أبي الصّلت:
وَما غربة الإنسانِ في غير داره ولكنها في قرب من لا يُشاكِلُ)
أما صفيّهُ الطيب صالح، فيقول عنه :
(..أكثر ما يدهشني فيه هو أنّهُ أقلّ الناس عبئاً على مجالسيه، وأكثرهم صبراً على الفارغين من كلِّ شيء، علّني لا أغالي إن قلت: إنني لم أرَ للطيب ضريباً في الصّدق مع النفس). 6 ويبدي الأستاذ عليش رأياً، رأيته مفارقاً للموضوعية، وهو أنّ منصور في مرثياته، يصدر عن قدراته العقلية، أكثر ممّا يصدر من قلبه وعاطفته وشعوره الخالص.7 لكأنّ عليشاً أراد من كاتبٍ عكف على التعبير بلغةٍ ساميةٍ، حملتْ بصمته لسنين عددا، أن يتنازل عنها ليكتب مراثيَ بلغةٍ أدنى، حتى يقال إنه يرثي أصفياءه وقامات البلاد السامقة، بقلبٍ صادق.
3- منصور و “غناءُ الحقيْبة” :
في سعيهِ للتوغّل في ذلك الذي شكّل وجدان مدينته التي نشأ فيها ورافقه الأمدرماني على المك، عاشق ترابها ، ظلّ منصور يرصد “غناء الحقيبة” في أم درمان، كيف تطور فن التطريب فيها من “الحُمبي” الصوتي و”الحلقمة” غير الكلامية، إلى غناءٍ بشعرٍ ملحون كتبه بلسان العامة ، شعراءٌ خرج أكثرهم من مرحلة الخلوة والتعليم التلقينيّ الأول. نهل أكثرُ أولئك النفر من الشعراء الشعبيين، من الأدب العربي والشعر الفصيح خاصة، بهمّة ذاتية عالية، ولم يصقل مواهبهم معلمون في المدارس أو الكليات، ولكنك تجد منهم المنخرطين في مهنٍ بسيطة، فيهم النجّار والكهربجي والحوّاتي والبقال والحدّاد، لكن تجد شعر المعلقات راسخاً في صدورهم. لكأنّ هذه المهن التي يعرفها ويتعامل مع منتسبيها غِمار الناس، هي التي اجتذبتهم لدورٍ ينتظرهم في الصياغة التلقائية لوجدان المدينة الناهضة من وعثاء الفترة التي سبقتْ الحكم الثنائي، وهي فترة حكم الخليفة “عبد الله التعايشي” في دولة المهدية، أواخر سنوات القرن التاسع عشر، والتي ما كان متاحاً فيها المجال لتطوير الغناء أو التطريب الصوتي والموسيقي. لعلّ أقصى ما أطرب الناس ذلك الزمان، هو إنشاد المادحين في المناسبات الدينية، و”ضربهم النوبة ” حتى “تئن” في أيام المولد النبوي الشريف، كما في قول الشاعر محمد المهدي المجذوب في قصيدته الشهيرة عن تلك الاحتفالات. 8
لا تبرح ذاكرتي في سنوات الصبا الباكر في مدينتنا أم درمان، مارشات شباب طائفة الختمية، يعفّرون تراب الطريق، وهم يُنشدون: “شيء لله يا حسن.”
لاغروَ أن نجد “غناء حقيبة الفن” الذي عرفناه لاحقاً، بهذا الوصف الذي أطلقه عليه الشاعر السفير صلاح أحمد محمد صالح، قد خرج من خاصرة الأماديح الدينية، ومن حلقات المادحين، وإنشاد المتصوّفة الشعبيين. ولأنّ مثل هذا الغناء قد فارق المعتاد، مُرتحلاً من الدينيّ إلى الدنيويّ، فقد واجه إدانة اجتماعية ضارية أوّل عهده. ثم إنك تتلمّسَ روح التسامح قد سرت رويدا رويداً في روح مدينة زاخرة بتنوع إثني وألسنة شتى، بلغ تأثيرها أكثر أنحاء الوسط النيليّ في السودان.
حين يتهادى صوتُ عوّض ورفيقه إبراهيم شمبات، ينشدان من شعر القبطيِّ ابن حيِّ المسالمة في أم درمان، مُسعد حنفي:
)الناعسات عيونن
نور جبينن هــلّ
ما بين تبرِ صافي
وأخضراني اللون..(
أو حين تطربك غنائيات ميرغني المأمون وأحمد حسن جمعه، من شعر الأمدرماني سيد عبد العزيز :
)لَي نيّـة في قمــر السّــما..
مَقاصدِي هوْي ما أجسَمَه
حـيّ المسـالمة ومسـلمة..(،
كيف لا يبين للرّائي روح المدينة ينبض تسامح أهليها في طيّات ذلك الغناء الشجي..؟ لمنصور وقفاتٌ على مثل هذا الغناء الذي يمثل بتجذره في أم درمان، وجدان الوسط النيلي.
غير أننا نلاحظ أنّ منصور كثيراً ما أشار إلى نيته إخراج كتابه عن فنِّ “غناء الحقيبة”، ولكن تأخّر ذلك كثيراً. ولربّما نجد عذراً في ذلك، لرجلٍ تأسره ملكة التوثيق الدقيق، والركون إلى المراجع الرصينة، فيما أكثر تاريخ فنّ الغناء السوداني القديم، والذي يرجّح أن تكون بداياته في العقد الثاني من القرن العشرين، بقيَ تراثاً شفاهياً مُحرزاً في الصدور، ولم يتم توثيق أكثر مراحل تطوره، في مراجع مكتوبة متاحة، إلا فيما ندر.
ويُرجع منصورُ اهتمامه بالتأريخ لفنِّ “غناء الحقيبة”، إلى تشجيع وجده من صديقيه : (على المك الذي كانت له اليد الطولى في جمع نفائس الغناء السوداني بغية التوثيق لها، وعثمان حسن أحمد المؤرّخ الحاذق والعليم بأسرار الثقافات وسير الرجال)، حسب تصريحه في حوار صحفي نشرته صحيفة “الرأي العام”، وأشار إليه عليش في كتابه.9 ويرى منصور أنّ في ذلك الاهتمام، نابع من الاهتمام بقراءة التأريخ الاجتماعي لأم درمان بالنظر إلى فن “غناء الحقيبة”، ذلك الذي عرفته أم درمان وتطوّر في حواريها، وبأصوات من قدموا إليها وأقاموا في تلك المدينة الناشئة، والخارجة من جراحات معركة كرري عام 1898م. وشهدتْ مدينة أم درمان بعد ذلك، حراكاً وطنياً مقاوماً للسلطة الحاكمة التي يمثلها الإداريون البريطانيون، ومن عاونهم بدرجة أقلّ من المصريين في سنوات العشرينات والثلاثينات والأربعينات التالية من القرن العشرين الميلادي المنصرم. كان للغناء الذي عُرف لاحقاً بـ”غناء الحقيبة”، سهماً غير منكورٍ، وموازٍ بقدر كبير لجماعات المطربين ومنافساتهم، تماهياً مع المنتديات التي توسعت ونمَتْ لتشكّل، عبر جماعة “أبي روف” وجماعة “الهاشماب”، تحزّباً يشابه تحزبات الحركة الوطنية. لهذا النوع من الغناء سهم إيجابي، برغم النظرات الظالمة التي رمى بها مجتمع مدينة أم درمان، تلك الفئة من المطربين، فانتهى أكثرهم إلى مصائر مأساوية، ربّما لم يكتب لبعضهم من تقديرٍ يذكر، إلا بعد سنوات من نيل البلاد استقلالها.
لنا أن نتوقع من منصور، ابن أم درمان والتي كثيراً ما افتخر بنشأته فيها، أن ينشر ما أعدّ عن فن “غناء الحقيبة” والمطربين والشعراء الذين كانوا وراء ذلك الفن، مرفوقاً بتحليل موضوعي يضع “غناء الحقيبة” في مكانه الصحيح في مَشاهد الحركة الوطنية السودانية، التي مهّدت وصول البلاد إلى عتبات الاستقلال عام 1956. قال بلسانه، أنه سيتفرغ إلى ذلك.. “متى ما فرغنا من سخف السياسة”.10 نعرف أنّ منصوراً قد احترز من “غناء الحقيبة” كنوزها وأكثر، وأنّـهُ وجد سبيلاً أعانه على الوصول إلى منابعِ ذلك الفن، غيرَ أننا نأمل ألا يطول انتظار قرائه لهذا السِّفر الهام، الذي سيعين على فهم كيمياء تلك المدينة في تبرها وترابها. وما إشارتي إلى أم درمان، إلا لأنها بؤرة الوسط النيلي السوداني ومصهر التثاقف الذي يُقدّر أن يكون له الأثر البيّن في تشكيل مفردات الهوية.
نُقدّر أنّ مثل تلك الكتابات، تفارق خطّ منصور الذي ألِفَ، وذلك التأنّي عنده، مصدره الحرص على إحكام التوثيقِ والتصنيفِ وإثباتِ المراجع، لكلّ ما يريد أن يقول أو يحلّل، وذلك ديدن ذهنِ مَن لا يُلقى الكلام على عواهنه. في سنوات الحراك الوطني، وخلال العقود الأولى في القرن العشرين، كان للشعر وللغناء وللطرب الموسيقي حراك موازٍ. سترى لشعارات المرحلة: “السودان للسودانيين” أو شعارات الاتحاد مع مصر، ظلال عند شعراء الشعب مثل “العبادي” و”خليل فرح” و”ود البنا” و”أبوصلاح” وسواهم، كما تجد ظلالها عند مطربي تلكم السنوات مثل? كرومة” و”فضل المولى زنقار” و”سرور” و”إبراهيم عبد الجليل” إن ذهن منصور لن يغفل عن كلّ ذلك.
4- بَيْن الخاصّ والعام في السيرة الذاتية:
إن كتابة “السيرة الذاتية” تعتبر جنساً أدبياً مستحدثاً، لم يتجاوز عمره إلى الآن (2015م) المائتي عام 11. وإنْ عرفنا أنواعاً من كتابات عربية سجّلت مذكرات لأدباء ورجال دولة منذ سنوات بعيدة، إلا أن كتاب “اعترافات جان جاك روسو” في القرن الثامن عشر الميلادي، هو الذي دشن هذا الجنس الأدبي في الغرب. أما في المشرق، فقد دشنه في الأدب العربي الدكتور طه حسين بكتابه “الأيــام” (القاهرة، 1942). ولقد ثار جدل متواصل حول حقيقة وطبيعة هذا الجنس الأدبي، غير أنه لا خلاف حول تفرّده كإبداعٍ أدبي قائم بذاته. فهل سيُقدم منصور خالد على كتابة سيرته الذاتية التي قد تقترب من “الخاص”، أم سيكتب ما يمكن أن يوصف بالـ “مذكرات” التي تقترب من “العام”.. ؟
في بعض الحوارات التي أجريت معه، عبّر منصور عن تردّده في كتابة سيرته الذاتية، وربما لا نحسب ذلك ممانعة عن كتابتها، ولكنا نرى في ذلك تحفظاً من قبله، حتى يجد الصيغة التي تعينه في الركون إلى أسلوب جديد يخصّه ويتخيّره لكتابة سيرته الذاتية. لقد عبّر منصور صراحة عن إصراره على عدم تناول الخاص في سيرته، إذا ما قدّر له أن يكتبها فستكون “شذرات” من سيرته الذاتية. ذلك يوافق الغرض من كتابة سيرته الذاتية التي من المناسب أن نشير إليها بحسبانها مذكرات، وذلك لاتصالها بتجربته الشخصية في العمل السياسي العام، وهو الذي كثيراً ما أشار أن لا شيء يهمّ الآخرين في “الخصوصي” من سيرة حياته. لقد ذكر ذلك الرأي في لقاء صحفي له مع الأستاذ كمال حسن بخيت، ونشر في صحيفة? الصحـــافة” في عام 2001 ونقله عليش في كتابه عن منصور خالد. 12
من الطبيعي ألا نخضع رغبته هذه إلى مزيد من حكِّ الجلد بأظفارٍ متشكّكة. لكنّي رأيتُ أنّ هذا النوع من السّرد الذي يسترسل فيه الكاتبُ متناولاً وقائع حياته الشخصية، هو في حدّ ذاتهِ نمطٌ من أنماط الكتابة الإبداعية، ما عهدناه مِن قلم منصور. ذلك نمط من الكتابة يتطلّب نوعاً من الدربة والحذق والتجريب المتصل بفنون السرد الحكائي. لا أرى مثل تلك الملكات ممّا مما يميل إليها بيسر كاتبٌ تخصّص قلمه في تناول سيرة وطنٍ لا سيرة شخصيات، أمور عامّة لا خاصّة، وبقدرٍ طاغٍ من التحليل، والتشخيص الأقرب إلى التشريح، وبمباضع تتوغّل عميقاً في اللحم الحيّ، في وقائع سياسية لمسيرة بلدٍ، يختلط فيها السياسي بالثقافي وبالاجتماعي. هذا قلم منصور الذي قال عنه مُحقاً د. محمد خير عثمان: “منصور كاتب مُبارز. . لا يدخل الحلبة إلا والعصا معه..” 13
نرجو أن لا يُفهم أن في هذا الزّعم، ما يقلل من امتلاك منصور للغة الباهرة التي تعبّر عن فكره، أو تفرّد أسلوبه البديع في التناول، مثلما أوضحنا أول هذه الورقة . كلا. إن كتابة السيرة الذاتية أو السيرة الغيرية، تتطلب قدرات تختلف عن قدرات التحليل والإبانة والتشريح النقدي. إن الحكّائين هم أفضل من يكتب السيرة، ذاتية كانت أم غيرية. أشار الكاتب المغربي محمد شكري إلى إشكالية تصنيف بعض أعماله، مثل كتابه “الخبز الحافي”، فقال: “أنا لا أقول إنها رواية ولا أقول في نفس الوقت إنها سيرة ذاتية مكتوبة بتاريخ مسلسل، فهي سيرة ذاتية مروية، أو سيرة ذاتية بشكل روائي”.14
وتؤكد تلك الإشارة ما جاء من الكاتب الفرنسي جورج ماي: ” أن أدب الكتابة عن الذات استعار جلّ تقنيات الرواية الحديثة (…) كاتب السيرة أديب فنان، كالشاعر والقصصي في طريقة العرض والبناء، إلا أنّهُ لا يخلق الشخصيات من خياله”..15 ويُضيف د.مصطفى الصاوي بأفصح من ذلك بقوله، “إنّ أدب الكتابة عن الذات، يحتوي بعض ملامح الإبداع الروائي”..16
من الممكن تصنيف كتاب “الثلاثية الماجدية” ( الخرطوم،(2000) كـ”سيرة أسرية” ذات نفس صوفي. إلى ذلك يقول منصور عن تأليف ذلك الكتاب: “إن هناك دافع مهمّ وهو أن هذا التراث بدأ يتبدّد نتيجة التعامل الاهلي معه بإهمال أو كأحراز كان يجب الاحتفاظ بها داخل السحارة. .” 17 ذلك يعكس حرصاً أكيداً عند منصور، في دعوته للخروج من دائرة التوثيق الشفاهي الآيل للنسيان، إلى التوثيق المكتوب، القابل للحفظ في أشكال، تتجاوز شكل “السحارة” الذي أشار إليه في تعليقه، ويتدرج إلى براح يتيحه على الشبكة العنكبوتية التسجيل الرقمي وسواه من أشكال حفظ المواد الثقافية . ذلك جهد محمود ويوفر ديمومة لتراث يشكل طرفا من تاريخنا الاجتماعي.
5- عَن التشكيل والموسيقى :
لكَ أن تجولَ بعينيك في دار منصور في قلب الخرطوم، فترى أيّ متحف غنيّ بكلِّ فريد من آيات الفن التشكيلي حولك. سترى المنحوت من الفن الأفريقي، مثلما تجد لوحات كبار تشكيلييّ السودان، على كلِّ جدارٍ في تلكم الدار. “ابراهيم الصلحي” و”شبرين” و”كمالا” هنا. والراحلان “عثمان وقيع الله” و”حسين شريف” وسواهما أيضا. أعمال سودانية ووجوه أفريقية كثيرة. حصانٌ خشبي منحوت بحجمٍ طبيعي وكأنه حصان طروادة، ينتصب في الواجهة. أعمالٌ تشكيلية من ثقافات شتى، لا تجتمع عند أحدٍ إلا أن تكون عند منصور خالد. عنده تتكامل جماليات الفكر مع تجليات الفنون..
تجد لمنصور ذائقته الموسيقية التي توافق مزاجه، وهوَ مزاج أقرب إلى الانطواء المُثمر منه إلى الانفتاح المجانيّ، ويُحدّث أنّـهُ يلوذ بكتبه وبالموسيقى، يسمعها عند أهليها الألمان والروس.18 لكنّهُ-وهو الذي طربَ لـ”كرومة” ولـ”سرور” في صباه-لا يُخفي إعجابه بشباب الغناءِ الناهض في السودان، كعاصم البنا أو علي السقيد أو جمال فرفور. . إنّ الذهن الذي يُعلي من تنوّع الثقافات في مناحيها كافة، يرى تجلياتها-لا في السياسة فحسب-بل في فنّ الغناء والموسيقى والرسم والنحت والتشكيل، وله الذائقة التي تتسع لكلّ ذلك . .
سلوا الفنان الصلحي وسلوا الفنان شبرين، وسلوا كمالا..
لمّا كان الصلحي نائباً للمستشار الثقافي في سفارة السودان في لندن، أوائل سبعينات القرن الماضي، رأى منصور-وهو رأس الدبلوماسية السودانية-في قدرات الرّجل الخلاقة المبدعة، ذلك الجانب الذي يؤهّله لخدمة الثقافة والفنون في السودان، بأكثر من فعاليته المتواضعة في تلك السفارة. زكّاه منصور لوزير الإعلام آنذاك، ليتولى مهمّة إنشاء مصلحة للثقافة تلحق بوزارة الإعلام، ويقدّر لها أن تخدم وتدعم أيضاً الدبلوماسية الثقافية في وزارته، وهي ما يشار إليها بلغة اليوم بـ “الدبلوماسية الناعمة”. تلك الرؤية الثاقبة هي التي حدَتْ به ليزكّي إبراهيم الصلحي ويرشحه لتولّي تلك المهمّة الجديدة في وزارة الإعلام. أشار الفنان الصلحي في سيرته الذاتية، أنه تم استدعاؤه من لندن للخرطوم، لينشئ مصلحة للثقافة تتبع لوزارة الإعلام، بناءاً على اقتراحٍ من د.منصور.19 ما كانت لتسقط من ذاكرة منصور، عبقرية زميله في مدرسة “وادي سيدنا”، إبراهيم الصلحي، الذي كان يساعده في إصدار جريدته الحائطية ويزيّنها برسوماته الإيضاحية، وهما صِبية في تلك المدرسة الثانوية المميزة. 20
من التشكيليين الذين كانوا محلّ احتفاءٍ مِن قبل منصور، تقف امرأة فنانة باذخة المقام، هي كمالا ابراهيم إسحق. إنها امرأة وضعتْ أوضح بصمّة في ساحات الثقافة، في العقود الثلاثة التي أعقبت الاستقلال والتي شهدت بزوغ التيارات الثقافية والفنية مثل “مدرسة الخرطوم” ومدرسة “الغابة والصحراء” و”السودانوية” وسواها. جاءت كمالا بتخصّصها المميّز والنادر في الفن التوضيحي وفن الجداريات. وما أن تولّى منصور ملفّ الدبلوماسية السودانية، أوائل السبعينات من القرن الماضي، ومنطلقاً من رؤية ثاقبة، وإدراكٍ واعٍ لدور الثقافة والفن في صياغة خطابٍ دبلوماسيٍّ يلهج بهوية السودان، بفسيفسائيتها العروبوية والأفريقانية، حتى كان للتشكيل وجودٌ على جدار وزارته، فكانت لكمالا ابراهيم اسحق فرشاتها التي زيّنت مكتب وزير الخارجية، ثمّ رسمت على الجدار الأرضي الجنوبي لوزارة الخارجية السودانية، ما يشكّل عنواناً فنيّاً لدبلوماسية ناهضة.
لم يقف اهتمام منصور على لوحات كمالا الإيضاحية تلك، لكنه استحثّ سفاراته أن تكون مكاتبها وردهاتها، معارض دائمة تحدّث عن فنون السودان التشكيلية وثقافاته. كان للفنانة كمالا والفنان عبدالرحيم حاج الأمين دورهما في إعداد لوحات “الفريسكو” لنحو ثلاثين سفارة من سفارات السودان. بعد اتفاقية السلام في عام 1972، والتي كان لمنصور بذله المشهود فيها، فقد استفتحت وزارة الخارجية تحت قيادته، صفحة جديدة تُحدّث عن سودان يملك من مقومات الثقافة والفنون ما يعزّز تطلعه لاستدامة سلام دائم في السودان.
ثم هناك أحمد شبرين، صِنو الصّلحي في “مدرسة الخرطوم”. .
لقد كانت لمنصور رؤيته لاعتماد دبلوماسية الثقافة والفنون، ذراعاً مهمّاً من أذرع وزارة الخارجية السودانية. .
6- مًستخلص :
تدور أكثر كتابات د.منصور حول القضايا السياسية في السودان، وإن لاحظنا أنّ انشغاله بالشأن العام، لم يبعد ذهنه الموسوعي عن اهتماماتٍ إضافية بالتأريخ الاجتماعي لمسيرة البلاد، واتصال ذلك أيضاً بنظرته لحركة الآداب والفنون وتشابكاتها مع الحراك السياسي. إنّ مفكراً سياسياً مثل د.منصور، لا يقف على حدود ما خبره وتخصّص فيه، بل تناول موضوعات إضافية تتصل بالتعليم وبتوثيق بعض الجوانب الناعمة في الحياة السودانية، كرثائه لبعض الأخيار ممّن عرف، ومثل كتاباته عن التصوَّف وفنّ الغناء والفنون التشكيلية، وما لها من أثرٍ في تشكيل الشخصية السودانية وتلوين وجدانها. يُشكّل كتابه? الثلاثـيــة الماجديــة” (2000م) وكتاباه المزمع إصدارهما، عن “غناء الحقيبة”، وعن تجربته الحياتية العامة، إسهاماتٍ في هذا الاتجاه. ونلاحظ أنّ الكتابين الأخيرين، يمثلان نمطاً جديداً، ليس ممّا اعتاد عليه قلم د. منصور. ذلك ما قد يفسر في تقديرنا تأخير إصدارهما، إذ من الطبيعي أن كاتباً مثل د.منصور، لن يستعجل إخراج مثل هذه الكتابات، لما تتطلبه من جهدٍ إضافيّْ في جمع المواد وتمحيصها، وفي التحليل الموثق وضبطه، برغم من ملاحظتنا أنه وجد التفرّغ الذي تمنّاه بعد تخلصه من هموم السياسة، بعد استغراقه فيها أكثر سنواته.

إنتهى
يناير 2016
هــوامــــــش
1- منصور خالد : حوار مع الصفوة ?الخرطوم ، 1974.
2- جمال محمد أحمد : مقدمة لكتاب منصور خالد: حوار مع الصفوة – 1974، مرجع سابق ، ص 16.
3- عبدالماجد عليش: منصور خالد: ملاحظات ، أسئلة بدون إجابات: الخرطوم، عام 2014 .
4- منصور خالد: النخبة السودانية وإدمان الفشل- 1986- صفحة 314.
5- عبدالماجد عليش: 2014 مصدر سبق ذكره، ص 318 ، نقلاً من صحيفة “حريات” عدد 23/12/2008.
6- محمد المهدي المجذوب: “نار المجاذيب” ، الخرطوم ، 1969، قصيدة المولد-ص87 325.
7- عليش : مصدر سبق ذكره، ص 312.
8- محمد المهدي المجذوب: “نار المجاذيب” ، الخرطوم ، 1969، قصيدة المولد-ص87.
9- عليش : مصدر سبق ذكره، ص 315.
10- عليش : مصدر سابق، ص 405.
11- مصطفى الصاوي: السيّر والمذكرات في الأدب السوداني”، م. ع. م. – أم درمان، 2012 ، ص
12- عليش : مصدر سبق ذكره، ص 362.
13- محمد خير عثمان: “المدخل إلى بخت الرضا وأوراق أخرى”، مدارك للطباعة والنشر- الخرطوم، 2014، ص250.
14- محمد شكري: “مفهومي للسيرة الذاتية الإنشطارية” ، مقال في كتاب: الرواية العربية واقع وآفاق- دار ابن رشد، بيروت 1981، ص 221.
15- جورج ماي : “السيرة الذاتية” :1979 (ترجمة عربية) ، ص82.
16- مصطفى الصاوي: “مصدر سبق ذكره، 2012 ، ص 190.
17 عليش : مصدر سابق، ص374.
18- عليش: 2014، مصدر سابق، ص 413.
19- ابراهيم الصلحي: قبضة من تراب، الخرطوم، 2012، ص 61.
20- إبراهيم الصلحي : المصدر السابق، ص 192.
* جمال محمد إبراهيم سفير متقاعد وكاتب، نشر عدداً من الدراسات والمقالات في الصحف السودانية والعربية، وصدرت له في 2008 دراسة عن نشأة وزارة الخارجية السودانية، إلى جانب عدد من الأعمال الروائية والشعرية والأعمال المترجمة.
+++++
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. ياسعادة السفير موضوعك جميل زى العادة لكن وبما انك من ضمن المجموعة التى تنظم حفل تكريمه لدى استفسار لماذا د. منصور عازف عن كتابة اولى خطواته فى الصحافة وخاصة صحيفة الجمهوريين وتحت اشراف الصحفى الفذ رحمة الله عليه الاستاذ جعفر السوري هذا ما اعلمنى به احد الاصدقاء وسبق ان وعده بالكتابة فى تجربته الصحفية هل كان منصور سيكون صحفيا عاديا لا اعتقد لانه تلميذ لصحفى فذ هكذا اعلمنى صديقى عن تجربة منصور فى الصحافةمارأيك ياسعادة السفير عن حلايب.

  2. لله درك باجمال أديب كبير يحكي عن قامة ادبية شامخة اتحفنا أيها الراوي الصنديد شكرًا سعادة سفراء العلم والفن

  3. لله درك باجمال أديب كبير يحكي عن قامة ادبية شامخة اتحفنا أيها الراوي الصنديد شكرًا سعادة سفراء العلم والفن

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..