مقالات وآراء سياسية

سِفْر الرُسُومَات (كونية بالخط المائل)

دكتور الوليد آدم مادبو

ولّدت الرسومات الكاريكاتيرية التي أعيد نشرها في فرنسا انكسارات وثغرات في الوعي الإسلامي الشرقي وذاك اللائكي الغربي، وخلقت انطباعات لها صلة بالمسار التاريخي لتطور الأشياء لكل منهما أكثر من إيمان كل منها بالأسس الثابتة لرؤية جوهرية تكاد تكون سبباً للصراع الماني (ثنائي) الذي كاد ينشب كلما احست كل مجموعة بالإساءة إلى معتقدها!

إذا كان كل تطور للمجتمع هو بمثابة مسار ارتهاني، فإن التحرر، كما يقول داريوش شيغان، لن يتم في مستوى التحول الوجداني بل في مستوى تجدد المجتمع ذاته، الذي حين يُخْضِع إرادة الفرد للإرادة العامة القائمة على الفضيلة، يكون قد وضع حداً للاستهتار والاستخفاف بمشاعر الآخرين. إن المجتمع الغربي – رغم تجدده – يرفض إخضاع إرادات الأفراد للإرادة العامة، كما أن المجتمعات الإسلامية رغم انفعالها العاطفي تكاد لا تبرح خانتي الجمود والتكلس.

وهذا التصويب هو الآن المحور الذي تدور حوله في آن واحد الشحنات الانفعالية للخطاب الإسلامي وتحولات المسالك النفسية التي تندد وتستنكر لأوالة القهر وسلطة الإكراه التي تمارسها بعض البلدان الأوروبية على مواطنيها المسلمين، وذلك بدءاً من التحديات المعيشية اليومية، إلى الضغوطات الاجتماعية إلى الأسئلة الوجودية الكبرى.

إن تواجدنا في الغرب ورغبتنا في الوصول إليه عبر المحيطات لهو أكبر دليل على فشلنا في إيجاد مكان ملائم يمكن أن نسهم به في رفعة مجتمعاتنا، بل إن الحروب الأهلية الدائرة تدل على عدم قدرتنا على تفعيل مؤسساتنا بطريقة تستوعب عظيم موروثاتنا وفائق تنوعنا. ولذا فالتشاكس مع الآخر هو بمثابة تنازع مع الذات، تشاكساً يأخذ بعداً سلبياً لإفتقارنا للأدوات المعرفية والحضارية، ولعجز الغرب عن إدراك طبيعة السجال كي يتمكن من إدارته بصورة سلسة، بل مكابرة الأخير، تعنته وعدم اعترافه بدوره المستمر في تقنين التخلف بشتى الطرق – الاقتصادية والسياسية – في دول العالم الثالث.

يلزمنا هنا أن نميز بين العلمانية بنسختها الأمريكية التي تستبطن سبل الاكراه مؤسسياً وبنيوياً وبين اللائكية بنسختها الفرنسية التي ترفض أن تستوعب أشد العناصر تنوعاً وتمعن في المحاولة لصهرها في مصهر توليفي كبير. لقد ازاح الغرب “المقدس” من مركزيته إلى الهامش، الأمر الذي لربما أقام التعارضات بين إرادة الله وإرادة الناس. فقد غدا التعبد لأنظمة الحكم القائمة بفضل ما وضعت من أديان مدنية وسياسية، ويفضل ما أحدثته الثورة العلمية والاسهامات التكنولوجية التي حولت العالم بكل ما يحمل من رمزية ومؤسسية إلى مادة استعمالية وقيمة تداولية لم تستثن حتى أنبيائهم من التندر والسخرية.

بيد أن العمق الحضاري للإنسان، كما يقول عبد الرزاق بلعقروز، عمق ديني روحي لا تعوضه أي عقيدة فلسفية، وللمسلمين الحق في يرفضوا الزي السياسي الأيديولوجي الذي يريد تأويل العالم وفق منظورة الخاص، بل من واجبهم أن يسعوا لاجتراح أفق حداثي جديد ينأى بنفسه عن تكرار التجربة الغربية التي بات التاريخ بالنسبة لها عبارة عن سيرورة لتحقيق العلمنة رغم استفاقتهم على كوارث أضاعت كنوز المعني والقيمة.

لقد انطفأت جذوة الفعالية الحركة الايمانية لدى كثير من المسلمين نتيجة ضعف الفهم العملي للقرآن، ولذا تراهم يلجأون للتعبئة الروحية التي لا تسع لتغيير الجانب النفسي للفرد المسلم وتوجيه للمقاصد الأخلاقية السديدة، قدر ما تستدفعه لمواجهة “الآخر” وتحديه تحدياً غير حيوي، بل لا يستند على إجراء برهاني أو صدق نظري، إنما مجرد تأويلات (وليست معرفة حقيقية) جلبت التشويش وأحدثت الفوضى والاضراب في كثير من المجتمعات الإنسانية.

لقد تعرض النبي (صلى) في حياته إلى إساءات بالغة، بل إلى محاولات طالت الأذى الجسدي، بيد أن ردة فعله (صلى) لم تبرح يوما خانة الصبر حتى كان الصبر على الأذى هو أحد أبرز سماته، وأجمل صفاته. ولنا أن نسأل من أين يأتي هذا “الإجلال” التي يتملك بعض “المؤمنين” ويدفعهم إلى جز رؤوس من تسول لهم أنفسهم الإساءة للذات الشريفة، وقد كان حريَ بهم أن يلتزموا التبليغ منهجاً للتعريف بالنبي (صلى) في أوساط لم يصلها بلاغ، بل حيل بينها وبين معرفة الدعوة المحمدية بكافة الطرق والوسائل.

هؤلاء المتحمسون يكادون يُسْقِطون أفكاراً ومقولات هي من عوامل تفكيرهم الخاص على النهج المحمّدي، فيستبيحون بذلك حرمة المجتمع في التبصر بعد أن استباحوا حرية الأفراد في التفكر. لا تدخل الإساءة للأفراد – دعك عن القيادات – ضمن ما أعني بالتفكر، فمن يفعل ذلك لا تستفزه فكرة الإساءة للمعتقد قدر ما يسع للتعرف على فاعلية الإدماج القسري للمسلمين، ومن ثمّ التعرف على حدود الصبر والتحمل لديهم. هذا ما حدث مراراً لليهود والنصاري، الذين هزئت هوليوود من أنبيائهم، فلم تتعد ردة فعلهم الأهمال الذي أثبت جدوته في تضييع القدرة التسويقية لهذا الفعل الشنيع.

لا يستغرقني التفكير في مصير القاتل الذي ربما عانى من حالة الازدواج الماهوى للمجالين: الديني والدنيوي، بقدر ما تهولني ردة فعل السياسيين (المسلمين وغيرهم) الذين يريدون أن يستخرجوا خلاصات من هذه الحالات النشاز ويطرحوا مقاربات تتعلق بمصير الدين – والدين الإسلامي خاصة – في المجتمع الحديث الذي يطلب أفراده حياة روحية باطنية وذاتية في آن واحد.

هذه وضعية اختزالية يجب أن لا تقرن بمسير العقلانية، أو مصير الحداثة التي لا تعدو كونها مجموعة عناصر منمَقة، لكنها منزوعة ومجردة من بعض مضامينها الوجودية. الأخطر، أن ثمة إرادة تريد أن تؤول العالم وفق منظورها، تختبئ خلف ما يبدو عقلانياً، موضوعيا ومحايداً.

ليس المطلوب أن يقدم الدنيويّ تنازلات على حساب المقدس، ولكن أن نحرر هذا الأول من بعض الغرور الاكتفائي والذي قد يقضى عليه. قد يبدو الفرد ممزقاً، كما يقول دوركايم بين تطلعاته الفردية الأنانية والواجبات الناجمة عن انتسابه إلى جماعة أخلاقية لاتكاد تميز بين العاطفة والمعتقد. فالذي ينجرف وراء عاطفة تدفعه للأضرار بحياة الآخرين، يفعل ما يفعل ظاناً أنه مُخْلِصاً للمعتقد ومُخَلِّصاً للجماعة من جريرة التعدي الذي يطالها من “السلطة الزمنية الفاسدة”. وهذه آفة التأويل اللاديني للدين، الأمر الذي يحدث حينما يكون الإيمان المشترك مهدداً بأسباب عديدة داخلية وخارجية، وقتها تكون الحاجة ماسة لإنقاذ وجود الدين كدين، في عالم ثقافي مرسوم بالفردنة وذوتنة أنساق الدلالة (راجع كتاب “سوسيولوجيا الدين”، لدانيال هيرفيو ليجيه وجان بول ويلام، ترجمة يوسف طاهر الصديق).

وبالمقابل نرى تأويلاً دينياً للعلمانية في مجتمعات تدعى مغادرة الآلهة لساحتها العامة، لكنها ما برحت تبحث عن مصدراً للطاقة تمتح منه الشعور بوجودها الخاص وتعيد على إثره بناء مثلها الأعلى ولو أن يكون ذلك تأليهاً لرجالاتها وتقديساً لأفكارهم التي باتت موضع إجماع يحرم النيل منه. وهذه الكونية كونية مائلة لكونها ترصد التعدي في شأن قادتها الوطنيين ولا تستنكره في شأن الزعماء الدينيين، ولو أن يكون سيد الأولين والآخرين (محمّد)، على الأقل من وجهة نظر المحبين والتابعين.

[email protected]

‫5 تعليقات

  1. يا خوي من قُصُر كدة كل الاستهزاء الغربي من خلال هذه الرسومات ما هو إلا امتداد للهزو المكتوب في مؤلفات المستشرقين وللأسف فإن مصدر هذا الهزو في الحالين هو المؤلفات الإسلامية من منتجات العهدين السياسيين الأموي والعباسي، وأولها سيرة ابن اسحاق وابن هشام وكتاب البخاري وغيره من كتب المرويات أو السنن. فهذه الكتب والمرويات تتضمن قصوراً في النهج العلمي لا سيما مسألة التحقيق أو السند التاريخي ومصداقية الرواة والمؤلفين فلاً عن ذلك. فإذا نحن المسلمون اعتمدنا وقدسنا هذه المراجع بما يشوبها من خلل وبما تتمنه من روايات لا يقبلها العقل أو لا يفسرها إلا بمنهجه العلمي الساخر مثل روايات زواج النبي الكريم ومعاشرته لأزواجه وروايات الآيات الشيطانية وغيرها مما تعج به الكتب (الاسلامية) هو سبب هذه السخرية الغربية طالما اعتبرنا نحن المسلمون هذه الكتب مقدسة وتمل حقيقة التاريخ الاسلامي وعلينا تنقيتها أو قبول السخرية من غير المسلمين بروح رياضية!

    1. اولا شكرا جزيلا للدكتور مادبو على تطرقه لهذا الموضوع الهام وكذلك شكرا للأخ الكيك على تعليقه المفيد ورحم الله الاستاذ محمد ابو القاسم حاج حمد الذي قال لانه لا يهاجم فقهاء المسلمين ومفسري القرآن العظيم لكنه يهاجم الفكر التوراتي الخرافي المستمد من الواح بابل الذي استند عليه مفسرو القرآن الكريم كما فعل ابن كثير وابن حزم وقالوا هذا هو تفسير الإسلام. فالعلة الرئيسة تكم في هذا التراث المليء بالاساطير واخرافات التي كانت تخاطب انسان القرن الأول الهجري الذي يتميز زمانه بالفراغ الكبير ليقرأ ذلك التفسير المعنعن الذي يحمل في كثير من طياته أسماء نكرة كأن يقول حدثنا عبد الله قال حدثنا فلان….. الخ فكيف يستطيع انسان القرن الحادي والعشرين في عصر التقنية والحوكمة في هذا الزمن اللاهث الذي تكتنفه الصراعات الثانية والقبيلة والمصالح الشخصية والحزبية الضيقة. الدين المعاملة والله لو عمل المسلمون بهذا المبدأ لآمن كا من على الأرض على الرغم من المشاكل البيئية وتدهور المناخ وانتشار الفقر.

  2. الله عليك يا الكيك.. يسلم يمينك.. كلام سليم جداً.. الموضوع ببساطة أن الغرب يسخر من الدين المشوه الذى تقدمه كتب المرويات والتفاسير البالية وشيوخ القفطان والعمامة وليس من الدين الإسلامي الحقيقى..
    علينا أن نواجه حقيقة أن الإسلام المطروح حاليا منفر جدا ويجعل للغرب ألف حق فى السخرية منه..
    نحتاج إلى إعادة تقديم الإسلام بوجهه الحقيقى السمح ولكن نفعل ذلك هنالك الكثير مما يجب أن نلقيه وراء ظهورنا

  3. السلام عليكم. متابع كتاب المقالات منذ فترة طويلة . شكرا يا دكتور على تناولك مثل هذه المواضيع وطريقة تحليلك لها فى شكل مقاربات فكرية. تعليقى حتى الان انا التعليق رقم (3) لهذا الموضوع. قبل ايام قراءة مقال فى القاردين حصل المقال اكثر من٢٥٠٠ تعليق.وصل الى درجة انه لايقبل اى تعليق اضافى. ده مقياس حقيقى لمدى مستوى المعرفة عندنا. رسالة عبرك الى الراكوبة.اقترح عمل تحليل للاتى يوميا !
    ١. ما هى اكثر عشرة مواضيع تصفح
    ٢. ما هى اكثر المقالات تعليق
    ٣. ما هى اكتر المقالات مشاركة
    دى ثلاث مؤشرات جودة للاعلام الاكترونى

  4. الزول السودانى المحايد فوق قال علينا ان نقدم الاسلام بوجهه الحقيقى
    ياخوى كل واحد بفتكر انو عندو الاسلام الحقيقى
    أنصار السنة
    الصوفية
    داعش
    الشيعةً
    الاخوان المسلمين
    وكل واحد بفتكر انو هو الفرقة الناجية من ال ٧٢ فرقة الموصوفة فى الحديث
    وكل واحد عندو من المخزون ما يكفر به الاخر ،،أنصار السنة يكفرون الصوفية ،،وهولاء يكفرون الشيعة ،،والداعشيون يكفرون الجميع ،،وهكذا دواليك
    حرب الطوائف والملل والنحل دى شغالة من زمن الامويين والعباسيين ، المعتزلة والاشاعرة وغيرهم كثر ، بل قبلها منذ عهد سيدنا على والخوارج
    كل واحد بيعتق انه يحمل وجه الاسلام الحقيقى

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..