
و المرأة الساخرة ، تقول لزوجها ، الذي أعلن – في حزمٍ رجولي – نيته “تطبيق الشريعة” في بيته ، تقول له :
– كدي هسَّع اعرف طبِّق الجلابية دي ، بعدين تعال للشريعة !!
و لكن الزوج لا يلتفت إلى تعليق زوجته الساخر ، بل يترك الجلابية “مكرفسة” ، ثم يقوم إلى الشريعة ، فيطبقها جيداً ، ثم يضعها في الدولاب!!!
∙ ليس هذا موضوعنا ، على أية حال ، ولكن موضوعنا الذي لا يحتمل الانتظار ، هُو مسألة “الحق الإلهي” في حكم الناس ، ذلك الذي يسميه المتأخرون بالــ(شرعيَّة).. والشرعية يا مولانا “خشم بيوت” ، فهنالك “الشرعية الثورية” – و النسبة هنا، يا هداك الله ، ليست إلى “الثور” بل إلى “الثورة” – و هنالك الشرعية “الدستورية” ، وهي تلك التي يكتسبُها العبدُ بموجب الدستُور و مباركته ، وهذا يستوجبُ أن يكون هنالك – أولاً – دستُور محترم و متفق عليه ، أما إن لم يكن متفقاً عليه ، فالأولى أن تُسمَّى شرعية ثورية ، سواءً أكانت هنالك ثورةٌ أم لم تكن .. و هنالك الشرعية “الطبيعية” ، و هذه تشبه الدستورية في قوة مبرراتها ، ولكنها لا تستندُ إلى أي دستور مكتوب ، بل تستندُ إلى علاقة طبيعية بين الحاكم و بين المحكوم ، مثل حُكم الأب على أبنائه ، أو حُكم الشيخ على حوارييه ، أو حُكم الراعي على غنمه .. و الأخيرة هذه – حُكم الراعي على غنمه – كثيراً ما تقبل التأويل و التوسعة و القياس ، حين تكون الفجوة الذهنية بين الحاكم و بين المحكومين شبيهة بتلك الفجوة التي تفصلُ بين الراعي و بين غنمه.. و لكن ، في جميع الأحوال المذكورة أعلاه للـ(شرعية) ، فإن السند الأعظم و “الأضمن” للشرعية ليس هُو الدستور ولا الثورة ولا العقل ولا القوة المجردة ، السند الأعظم للشرعية هُو إحساس الحاكم بأنه فعلاً “حاكم” و مسؤول ، فإذا لم يتوفر لدى الحاكم هذا الإحساس ، بغض البصر عن نوع الشرعية التي جاء بها حاكماً ، فإنه يكون فاقداً الشرعية ، مهما كانت مسوغات حاكميته ، و تأسيساً على هذا ، فإننا نستطيع أن نقول بثقةٍ كاملة أن :
∙ فقدان الشرعية هُو:
(1) أن يُقسِم “المسؤول” بالطلاق البائن ، أنه ليس “مسؤولاً” عما يجري ..
(2) أن يذهب الأب باكياً يشكو لطفله ، بدلاً عن أن يأتي الطفل شاكياً لأبيه ..
(3) أن تشكو “الحكومة” لشعبها ، بدلاً عن أن يشكو الشعب لحكومته ..
(4) أن تظُنَّ “الحكومة” أن رأي الناس فيها هُو ما يحمِلُهُ إليها “البريد” الرسمي فقط ، وليس من ضمن هذا الرأي المحترم عندها – مثلاً – رأي عجوزٍ مستوحدة في بقعةٍ نائية من الدولة ، أو رأي شيخٍ فانٍ يُجاهدُ كي يتوقَّى التسوُّل ، أو رأي طفلٍ متشرِّد ، لا يعرف حتى معنَى “حكومة”..
∙ هذا ، وكان من أعظم دعائم الشرعية في الإسلام ، كما فهمها تلامذة محمد صلواتُ الله وسلامُهُ عليه و على آله ، رأي الناسِ في الحاكم – و الغافلين منهم و الأباعد على وجه الخصوص – فكان من مألوف سيرة الراشدين ، بما فيهم خامسهم ابن عبدالعزيز رضوان الله عليهم جميعاً ، أن يحتالُوا حتى يعرفُوا رأي العامَّة فيهم ، فيلجأُون حتى إلى التنصُّت وراء الحيطان في أعماق الليالي ، ليس ليأخذوا من ساء رأيه فيهم إلى حيث لا يرى الشمس ، ولكن لكي يعرفُوا ما إن كانُوا يستحقُّون مكانهم من الناس ، أو لكي يعرفُوا مواقع القصور في حُكمهم أو في وُلاتهم و كبار موظفيهم ، بعيداً عن الهتاف وعن البطانة (التي لا تخلو أبداً من السوء) ، فيبادروا بالإصلاح .. كان عُمر يتنصَّتُ من وراء حائط امرأةٍ و ابنتها منتصف الليل ، حين سمع حواراً بينهما ، تدعُو الأمُّ ابنتها إلى خلط اللبن بالماء لبيعه ، فتذكرها الفتاة بأن هذا “حرامٌ” لو عرفهُ الخليفة لعاقب عليه .. فتقول الأم الواثقة من ستر الليل : أين نحنُ الآن و أين الخليفة؟؟..فتذكرها الفتاة بأنه إن كان الخليفة لا يراهما فإن من هو أعظم من الخليفة يراهما .. متأملو هذه الرواية من سيرة عمر لم يتجاوزُوا في تأملها التماس الحكمة في تزويج عُمر الفتاة لأحد بنيه ، و قلما تساءلُوا : لماذا لم يعاقب الخليفة المرأة التي شهد بأذنيه على غشها ، وقد لا يكون إلا القليلون من نظروا في حكمة (مكافأة المرأة بمصاهرة أمير المؤمنين ، وهي مجرد “بائعة لبن”فقيرة مثلها مثل “حليمة بائعة اللبن”)!!.. وفي الرواية التاريخية هذه وجوهٌ كثيرة للنظر ، أولاها و أهمها أن الحاكم المسلم الرشيد كان يلجأ حتى إلى التجسس ليعلم رأي الناس فيه ، لا لكي يثيبهم إن حسُن رأيُهم فيه ، أو ليعاقبهم إن ساء رأيهم فيه ، بل ليحاسب نفسه و يرى ما خفي عليه من معايبها !!..
المواكب