مقالات وآراء سياسية

تاريخنا .. مزوَّر!!

علي يس

خللٌ جوهريٌّ و عُضالٌ في الشخصيّة السودانيّة ، هو ما يقف وراء تاريخ الفشل المتناسِل في الدولة السودانيّة منذُ بدايات تشكُّلها في عهد السلطنة الزرقاء و حتى هذه اللحظة .. و خلل الشخصيَّة هذا تضافرت على إنتاجه طائفة من العلل غير المحصورة، لعلَّ أهمَّها على الإطلاق “إحساس الدونيَّة”  الذي ظلَّ كامناً في أفئدتنا منذ أجداد الأجداد ، و الذي ألجأنا إلى سلوكٍ تعويضيٍّ تمثَّل ، على الدَّوام، في تضخيم الذات و ادِّعاء الشرف و النَّقاء و البطولة و كرائم الأخلاق كلَّما أطبق على أنفاسنا إحساسُ الدونيّة المُمِضُّ هذا ..

  • كلُّ قارئٍ صادقٍ مع نفسه ، سيخرجُ بلا شكٍّ ، بالمحصلة أعلاه ، إذا قُدِّر له أن يطالع سلسلة مقالات للكاتب الحصيف ، الأخ الدكتور محمد قسم الله ، بعنوان (المسكوتُ عنهُ في الحياة السودانيّة : من ود عدلان إلى زمن البرهان) ، و هي سلسلة ما يزالُ يتوالى نشرُها بالزميلة “التيَّار” (تمنَّيتُ أن يوفّق كاتبها في إكمالها كتاباً ، سيصلح بلا شك ، كالدواء المُرِّ، في شفاء أجيالنا اللاحقة إذا ما قُرِّرَ ضمن مناهج التعليم العام )..
  • فإذا ما قرئت مقالات د. محمد قسم الله ، إلى جانب كتاب الأستاذ عبدالله الشيخ (التصوُّف بين الدروشة و التثوير: صراع السَّلف و المتطرِّقين في السودان) تبيَّن تهالك بناء الشخصيَّة السودانيّة عبر تاريخها الحديث منذ السلطنة الزرقاء.
  • لقد ورثت الشخصيّة  السودانيّة أسوأ ما في جذريها (العربي/ و الأفريقي الزنجي) ، فمن العرب أخذنا “كارثة” الفخر بالأنساب “التي ليس فيها ما يُغري بالفخر”  و البكاء على أطلال الماضي حدَّ العبادة ، و ادِّعاء كل ما نفتقر إليه من صفات (المروءة ، الكرم ، الصدق،  الشجاعة، إلخ) ، ثم ورثنا إلى ذلك “رقَّة التديُّن و انحصاره في الشكليات و الصوتيات لا غير” (يزعُم المنجمون الذين “ألَّفوا”  تاريخنا أنّ العرب جاءوا إلى السودان كدعاة إلى الإسلام ، بينما يؤكد التاريخ الأكثر وثاقة و موضوعيَّة أنَّ العرب جاءوا سعياً وراء المرعى أو بحثاً عن فرص حياة جديدة أو هرباً من مطاردة خصومهم من حكَّام الجزيرة العربيّة)  و أنَّ معظمهم لم يكن يحمل من الدين إلاَّ قشوراً “يشهدُ بذلك كتاب طبقات ود ضيف الله الذي يعتبر أقدم و أوثق أثر تاريخي/ اجتماعي في السودان” و من أجدادنا الأفارقة ورثنا  ضعف الهمم و تواضع الطموح  و الافتقار إلى روح المغامرة  و الرضاء بمعيشة الدواب “و هي صفات لم يرثها أجدادنا الأفارقة عن أسلافهم بناة أقدم حضارات التاريخ في كوش و مروي و نبتة، بل اكتسبُوها من اختلاطهم بقبائل أفريقيَّة وافدة من الجنوب و الغرب الأفريقيين، فضلاً عن اختلاطهم لاحقاً بالعرب)..
  • فإذا ما زاوجنا ، بعد ذلك ، بين أسوأ صفات العرب الوافدين و أسوأ  صفات الأفارقة المقيمين ، وجدنا، كمثال واحد من بين مئات الأمثلة ، رقَّة التديُّن عند العرب تختلط بطقوس السحر و الشعوذة عند الأفارقة ، لتنتج مؤسسات الدجل الديني المتسيِّدة على جُلِّ تاريخنا الديني منذ السلطنة الزرقاء ، مروراً بالمهديّة  ثم عهد المتأسلمين ، انتهاءً بما يعلمُه الله وحده في المستقبل .. ترى ذلك التدين المتشعوذ  يتسيّد  المشهد منذ عهد سلطنة الفونج ، حتى إنَّ ملوك الفونج كانُوا يرجُون من الفقراء (مشائخ المتصوِّفة) ما لا يرجونه من جيوشهم ، في هزيمة أعدائهم و حماية عروشهم ، ومن الوقائع الموثَّقة أنّ الملك الأول عمارة دُونقس احتضن الرحّالة اليهودي داوود  روبيني ، حين ادّعى اليهودي إنّه مسلم و من “نسل النبي” و استبقاه إلى جواره طمعاً في أن تفلح بركاته و أصله النبوي في حفظ عرشه ، حتى وشى به بعض منافسيه من أدعياء الشرف النبوي ، و أخبروا الملك بأنه يهودي مخادع ، فهرب روبيني بحماية الملكة التي كانت ما تزال على إيمانها ببركته و أصله الشريف ، و على ذلك قس..
  • و على عهد المهديَّة كان يكفي أن يقول أحد الخبثاء للخليفة عبدالله إنَّهُ رآهُ في المنام بجوار النبي ، حتَّى يقرِّبه الخليفة و يجعله من خلصائه (و هذا عين ما ظلَّ يحدث إلى أيام البشير ، تذكرون ذلك الدَّجَّال الذي حكى للبشير و نافع ، على ملأ، أنَّهُ رأى في منامه النبي ممسكاً بيدي البشير و نافع ، فتعالى تكبير الأحمقين و من حولهما ، و لا شك أن ذلك الكذّاب نال رضاءهما و بعض أوساخ الدنيا).
  • نحنُ بحاجة قُصوى إلى معرفة (من نحنُ) بعيداً عن “الساس، و الراس ، و إكرام الضيف و إشباع الطير.. إلخ “، و الادّعاء الأجوف. نحن بحاجة مصيريَّة إلى معرفة كيفيَّة التعلَّم من عثرات تاريخنا المتناسلة، و لن نستطيع أن نتعلّم شيئاً من أخطائنا ما دمنا مؤمنين بأنَّنا أكرم و أشجع و “أرجل” من مشى على الأرض.. نحنُ بأمسِّ الحاجة إلى أن ننسى أنَّ لنا أصلاً شريفاً و تاريخاً بطوليَّاً و انتصارات باهرة .. فتاريخنا كله تاريخ هزائم، و أصلنا الحقيقي “مُش ولابُد” ، فالبعرة تدُلُّ على البعير.
  • نحنُ بحاجة إلى أن ننسى “تاريخنا” كُلُّهُ ، لأنَّهُ تاريخٌ مزوَّر، يصفُ ضحايا التخطيط الحربي الساذج الأبله في كرري بأنّهم “شتَّتُوا كُتَل الغزاة الباغية!!” و يصفُ ملوك الفونج الذين أصبح آخرهم مجرَّد “شيخ حلَّة” لإسماعيل باشا يجمع له الضرائب، بأنهم أبطالٌ صنعوا دولة ، و يصفُ بعض الأفنديَّة الذين درَّبهم الانجليز ليتولُّوا إدارة السودان بدلاً عنهم ، حين سئموا هذه البلاد و خرجوا باختيارهم ، يصفهم بأنّهم (أبطال الاستقلال)..
  • نحنُ بحاجة قصوى إلى أن نتذكَّر شيئاً واحداً ، هُو أنّنا إن لم ننس “قبائلنا” و ضغائننا الاثنيَّة و ثأراتنا القديمة ، أو نقوم بتصفيتها “بالقانون أو بالعُرف” و نتصرَّف بعد ذلك كأمّة واحدة فلن نبارح فشلنا التاريخي. يجب أن ننسى ما فعلناه ، لأننا لم نفعل شيئاً ، و أن نتذكَّر ما يجب أن نفعله ، لأنه لن تقوم لنا قائمة إن لم نفعل.
  • يجب أن نضع أنفسنا جميعاً في “معسكر” للعلاج النفسي، فهو السبيل الوحيد لإيقاف مسلسل الفشل.
  • و للحديث بقية.

(المواكب)

علي يس

<[email protected]

‫11 تعليقات

  1. يقول كاتب المقال : (( لرضاء بمعيشة الدواب “و هي صفات لم يرثها أجدادنا الأفارقة عن أسلافهم بناة أقدم حضارات التاريخ في كوش و مروي و نبتة، بل اكتسبُوها من اختلاطهم بقبائل أفريقيَّة وافدة من الجنوب و الغرب الأفريقيين، ))

    نعليق : ما دليلك على هذا ؟؟؟؟

    ان التاريخ يكذب ما تقول , حيث ان منسا موسا سلطان امبارطورية مالي المتوفى عام 1337 م ( أي حتى قبل نشوء السلطنة الزرقاء) كان يحكم امبراطورية كبيرة و له مكانة عظيمه حيث استقبله حكام مصر و الشام و الحجاز اي المماليك في القاهرة بكل حفاوة و تكريم في رحلته للحج !!

    أسست مملكة الفون بسنار في عام 1504 م، نتيجة لتحالف بين قبائل الفونج في جنوب شرق النيل الأزرق بقيادة عمارة دنقس و قبائل العبدلاب بقيادة عبد الله جماع .

  2. كلام فى الصميم وأصبت كبد الحقيقه —يعيش الشعب السودانى فى اوهام البطولات—اللذى ادعى انه المهدى المنتظر بطل فى السودان والذين ادعو المهدية فى العراق تم اعدامهم وفى مصر تم سجنهم —عبد الله التعايشى اعدم ابناء المدعو المهدى تم بدء التصفية العرقيه فى السودان —المك نمر هرب للحبشه وصار بطل سودانى —نميرى أول من ادخل التعذيب فى السودان واعدم اثنين من روساء الاحزاب فى السودان والضباط اللذين عارضوه وهو بطل فى السودان — البشير واعدامه للضباط كثير من الناس يعتبرونة بطلا{ الزول ده مخوف امريكا عديل }البرهان وكباشى وحميدتى ابادو الطلاب فى القيادة العامة وتاريخنا المزيف سوف يصنفهم كابطال

  3. في البدء، الشكر أجزله لهذا المقال الرائع الذي جسد الحالة السودانية بعين فاحصة بعيداً عن العاطفة القبلية والقدسية الجهوية وغيرها من المسميات التي لم تضف إلى المجتمع السوداني سوى التشرذم والتفتت. مشكلتنا الرئيسية هي عدم وجود إحساس قومي جامع نظراً لعدم لعدم تعارفنا على مفهوم راسخ للهوية والمواطنة في الدولة السودانية الحديثة منذ فجر الاستقلال (ربما نجد عذراً لأجدادنا لأنهم عاشوا في ممالك وسلطنات مختلفة داخل الأرض التي تسمى جغرافياً اليوم بالسودان)، وتتحمل النخبة السودانية الفشل الأكبر في هذا الإطار، ثم جاءت مدارس أدبية مختلفة (ابادماك، الغابة والصحراء – على سبيل المثال) بكتابات تعويضية تعكس ضبابية مفهوم الهوية في السودان.

    نتمنى أن يكون لبلدنا في يومٍ ما دستور دائم يحتوى في مادته الأولى تعريف واضح للهوية والمواطنة، حتى نعرف من نحن من ثم نفكر انطلاقاً من كينونتنا.

    ياخي والله العظيم شكراً جزيلاً على هذا المقال الرائع، ودمت بخير!

  4. نيران صديقة ….لم تبقى على شي فينا…اتفق معك في ادعائتنا العرقية الجوفاء ….هي سبب كثير من التمزق الاجتماعي…اما على مستوى العلاقات والتعامل الاجتماعي …….لدينا خصال طيبة جدا ( اخشى عليها من التآكل )..مثل الكرم ….الشجاعة ….الامانة ….التكافل الاجتماعي ….المتمثل في المشاركة الافراح …والاتراح…الاحتفاء والمشاركة الجماعية في النفير …الاحتفال بالمناسبات الدينية …في شهر رمضان ….والاعياد …مساهمات المغتربين ودورهم البارز في مساعدة اقاربهم …كل هذه المظاهر الاجتماعية …تعكس تميزنا بموروث ديني فطري متاصل فينا …..وجعلتنا اكثر تميزا من كثير من الشعوب العربية والافريقية الاخرى وهي حقائق ظاهرة للعيان وليس ادعاءات جوفاء (و رقة تدين ) كما ذكرت ….صحيح لدينا علل كبيرة على مستوى السلوك الفردي والجماعي من المؤكد ان اصولنا الافريقية والعربية ساهمت بدور كبير فيها ….الا ان اسوأ ما في سلوكنا يتجلى في ممارسة العمل السياسي ….بين النخب المتحاسدة والمتنافرة …بالاضافة الى ممارسات الطائفية السياسية التي تمثل المنتج الاكثر سوءا للصوفية ( المستلبة من قيَمها الجوهرية ) ….بالاضافة الى المصائب والبلاوي الناتجة ممارسات ومشاحنات الايدلوجية …الاسلاموية ….واليسارية …
    ختاما اتابع بشغف مقالاتك المتميزة والمتجددة …ولك خالص ودي وتقديري

  5. الإسم على ياسين ليس غريبا على إذنى فقد كان لى زميل بهذا الإسم فى أحدى اشهر المدارس الثانوية بالسودان وبأضافتك للكنزى فهو أيضا من الكنوز يقطن بالدويم .. المهم مقالك فيه الكثير من العناصر الموضوعية التى تستحق المناقشة والبحث والإستقصاء. الأفارقة الذين تحدثت عنهم لم يعودوا موجودين الان فقد غادروا تلك المحطات البائسة ولم يبق فيها الا السودان وبمعنى اخر إفريقيا التى كان عيدى أمين أو موقابى أو بوكاسا أو موبوتو أو باينجيدا من رموزها أخذت تختفى الان وتظهر افريقا جديدة تماما فقد ظهر بالمقابل توماس سانكارا ومن قبل نكوروما ومانديلا وكاقامى وبقية الإيقونات التى تمثل النهضة والتطور والروح الجماعية والعمل بروح الفريق إن بلدا كغانا وهى تحتفل بالرئيس السادس والمنتخب ديموقراطيا تسجل واحدا من أعلى معدلات النمو الإقتصادى وبلدا كالنيجر تخرج بهدوء من قائمة الدول الأكثر فقرا لا فى القارة فحسب بل فى العالم أجمع وترتقى للصدارة ضمن أسرع الدول نموا في منطقتها الافريقية الغريبة والقارة أجمع. أهملت عنصر التربية وتعليم النشء وهى عملية معقدة يتم التخطيط لها بإحكام وتنفذ برصانة أين التربية في حياتنا وهل ينفع فقط ( ياولد كلم أمك تجهز الغدا؟؟) وماذا نحن فاعلون بأبنائنا في البيت الصغير والأسرة والمدرسة وبالشارع ماهى الأسس والقيم التى نربيهم عليها ونغذيهم بها منذ الصغر والأهم ماهى نظرتنا لهذا الوطن ولعل أبرز مشاكلنا هنا هى الإنتماء له فهناك من يرى أنه جاء مهاجرا وسرعان ما يلجأ إلى منبته الأول وهناك من اتاه وسرعان مايرى في نفسه بأنه الأحق من غيرره ثم يبدأ بالكيد والدس له. قضية التربية يجب أن تأخذ حيزا مقدرا في همومنا لأننا ظللنا نقبع في كبسوولات وهميةنتفق جميعا على أنها تعيق تقدمنا كدولة وتكبلنا كمجتمع عن النهوض لنبتعد عن نرجيستنا التى لاأساس لها. الموضوع خطير وحساس ولكن التصدى له لان صار واجبا سيما ونحن نجنى الأن ثمارها المرة

  6. ليس هنالك هوية سودانيه

    اهلنا الطيبون احسن من نطق العربيه و طبق الإسلام.

    إفريقية السودان مشكوك فيها الا جغرافيا.

    راجع يا علي يس كتابات و مقابلات بروف عبد الله الطيب و غيره عن السودان و ليس افريقيا.
    انت ليس لك الادراك بما تكتب شفاك الله

    1. عبد الله الطيب كان شيخ العروبيين بعد الطيب السراج .. كان عبد الله الطيب يلعن اليوم الذي وجد في في السودان وكان يعيش باوهامه مع الاعشى اذا طرب وامرؤ القيس اذا ركب …. الاغرب ان عبد الله الطيب العروبي كان شديد الولع بابي الطيب المتبي شديد الانبهار به رغم انه ما قدح السود والسودان وسبهم وشتمهم مثل هذا الشاعر العنصري

  7. افهموا الهوية أفارقة الدين الإسلام نحن مساكين نعمل من أجل العالم لأننا أقل واضعف نملك ثروات نهبوها في بنوكهم وهم يرونا دونهم لكنهم لا يستطيعون مواجهتنا الا بخبث أفريقيا دوما مولتهم وتمولهم ليس لأننا أقل منهم لكن لأننا نعلم اصولنا نطعم الجايع ونكسي المسكين ونغيث الملهوف لسنا ملوك ولا نريد أن نكون ملوك لأننا لسنا ملوك نحن أفارقة أفريقيا يعلمونا جيدا وعندما نموت يشتاق نا لنا وينسجون القصص ويضحكون ويستهزون هل تاثرنا بهم لا هذه هي الهوية التي بالدم لا تزول هم ماذا كلنا إذا عباد الله.

  8. عفارم عليك يا كاتب المقال قلت ما يجوش بخاطري يا اما حب الوطن وترك القبلية والاوهام التي تعشش في خيالنا (أوهام حبوبات) ونعيش في القرن الحادي والعشرين ونبي أمة قوية أو نقسم هذا الوطن فيكون لكل قبيلة وطن ونعيش في سلام جنب إلى جنب… لقد هرمنا….

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..