أخبار السودان

موسم الهجرة إلى التخلي عن الذات

محمود المعتصم

لا يمكن قراءة رواية موسم الهجرة إلى الشمال من دون ملاحظة التناقض بين نظرة مصطفى سعيد نفسه على أنه “مجرد أكذوبة”، والمسيرة المبالغة في الفردانية، وبالتالي، الابتعاد عن أي تورط اجتماعي، والتي كان يبدو فيها مصطفى سعيد واثقاً من نفسه، يفهم كل ما حوله بصورة عميقة، ويفعل ما يشاء. ويمكن الذهاب إلى أبعد من ذلك، فمصطفى سعيد شخصية مثيرة للإعجاب، تصلح، فعلاً، لأن تكون بطلة في رواية مميزة، وبالتالي، فإنه يحق التساؤل فعلا حول هذا الشكل الغريب من الإيمان العدمي لدى مصطفى سعيد.

وليس من المبالغ فيه القول إن موسم الهجرة إلى الشمال هي رواية الفرد النخبوي في دولة ما بعد الاستعمار، وبقدر ما يمكن أن يوصف ذلك الفرد، بشكل سلبي، على أنه النخبوي المفصول جذرياً بين واقعين، لا يستطيع، في النهاية، أن ينتمي لأي منهما بشكل حقيقي، فلا هو يستطيع أن يكون المهاجر المستوطن في الدولة “الأم” يشبه مواطنيها، ويندمج فعلياً كجزء أصيل في تاريخها، ولا هو قادر عند العودة إلى وطنه بأن يكون العقل المثقف لمجتمعه، لأنه لا يشعر، أو لا يرغب في الانتماء لهذا الجسد، وهذه الحالة، مثلها الطيب صالح في شخصية مصطفى سعيد جيداً. ولكن، بقدر ما يمكن لنا أن نصف هذا الفرد النخبوي بهذا الشكل السلبي، لا يمكن أن نغفل الحقيقة المقابلة، فهذا الفرد هو شخص مختلف عن الجميع، وفي حالة اللاانتماء البائسة تلك، تولد شخصيته المثيرة للإعجاب. وفي صراعه الذهني مع القوى التي يفترض أنها مهيمنة عليه، يصل هذا الفرد إلى حالة من الاكتمال، وإن كانت هذه الحالة بلا أي قيمة واقعية، إلا أنها حالة لا يمكن، على الأقل، تجاهلها في أي قراءة للرواية، وهي التاريخ الداخلي للظاهرة الاجتماعية.

وربما يمكن في ضوء هذه الرواية فهم الحالتين المتناقضتين لمجتمعات رقعة واسعة من الأرض، ابتداء من الصومال ونيجيريا، وصولاً إلى العراق وسورية وإيران، ففي الوقت الذي تبدو فيه النخب المتعلمة مصابة بشلل كامل، وغير قادرة على لعب أي دور حقيقي، في تحريك تاريخ مجتمعها إلى الأمام، تتحرك قوى أخرى، مثل جماعة بوكو حرام وتنظيم القاعدة وداعش بصورة فعالة، بين عدد كبير من الناس، وبينما تختلف هذه الجماعات في أشياء كثيرة، فإنها تتفق على العداء لدولة ما بعد الاستعمار، من دون أن يكون لها أي رؤية حقيقية لأي دولة بديلة، ويحرك هذه الجماعات وسط الناس حقيقة أن قيام هذه الدولة وتطورها لم يعد بالفائدة على أوسع قطاعات الناس. ولكن، يبقى المحرك الأساسي هو العداء الثقافي لدولةٍ، يعتقد الناس، بشكل عام، أنها طمست هويتهم، وفرضت عليهم حداثة معينة قادمة من الخارج، وربما يكون اسم جماعة بوكو حرام الذي يعني تحريم التعليم الغربي أوضح مثال.

وبين الحالتين، وأعني النخب التقدمية التي تلقت تعليمها في الخارج، أو تأثرت، أساساً، بالثقافة الغربية، والجماعات الجهادية. بين هاتين الحالتين السلبيتين، ظهرت حالة ثالثة أكثر إيجابيةً، تمثلت في الإسلام السياسي، فظهرت حركات سياسية ناجحة، تقوم على عودة ثقافية لنخب معينة إلى ثقافتها الأم، وهي الإسلام، وبالتالي، إلى قلب مجتمعها، ونجحت في إحداث ظاهرة اجتماعية، تشكل رأس الرمح في تحدي الشعب أنظمة تسلطية مدعومة من الخارج.

لكن، هل يمكننا أن نتطلع إلى شكل أكثر فعالية من الحراك المجتمعي؟ في موسم الهجرة إلى الشمال، يمثل مصطفى سعيد الوعي الغائب الحاضر، فهو لم يكن يشبه مجموعات مثقفي السلطة الذين يجتمعون في المباني الحكومية، ليناقشوا قضية التعليم في أفريقيا، طلبا لكسب المال أو المنصب، حسب الراوي، فإن مصطفى لو رأى “قادة أفريقيا الجدد” لكرههم فعلاً، إذ هو الوعي الذي يعرف أن هذه الحالة التاريخية هي حالة تخلف، تتحكم فيها مجموعة في مصير الناس، فتفسد الحرث والزرع، حتى لو تشدقت بكلام المثقفين، وتبارزت في إخراج شهادات الجامعات الغربية. إذن، أين الناس؟ “فليبنوا المدارس أولاً، ثم يناقشوا توحيد التعليم في أفريقيا، كيف يفكر هؤلاء الناس؟” يأتي رد محجوب الرجل البسيط في موسم الهجرة إلى الشمال.

إن عملية تكوين الهوية الفردية للمثقف، هي عملية إدراك أصيل لواقعه وموقعه الفريد في التاريخ، وفي تلك العملية، يولد على سبيل المثال اليساري الذي يرى في الإسلاميين حليفا حقيقيا واستراتيجيا، مثل المنصف المرزوقي. والأمر نفسه بالنسبة لزعيم سياسي سوداني، مثل عبد الخالق محجوب الذي كون تحليلا أصيلاً لمسألة الدستور الإسلامي فقبل به، وكون علاقته النقدية، أو الصراعية مع الإسلاميين، بصورة ذاتية استقلالية، وليس عن طريق استجلاب الوصفات التاريخية الجاهزة من الخارج. ينقص مجتمعاتنا بشدة هذا التيار السياسي الثقافي، فإذا كان التيار المقابل لتيار اليمين، حالياً هو تيار نوع من العلمانيين الذين أصبحوا، مع مرور الوقت، ليبراليين يعملون سفراء لسياسات الخصخصة المطلوبة من المجتمع الدولي، ويتبنون أجندة ثقافية واجتماعية، لا تمت للمواطن بصلة، ويتحالفون مع الأنظمة الرجعية، متى دعت الحاجة. هذا بالطبع بجانب التحالف الدائم مع القوى الغربية المهيمنة، بوصفها منبع الحضارة ونموذج التقليد، فإن هذا اليسار الوهمي المفصول عن المجتمع يمثل أحد أقطاب المشكلة.

العربي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..