مقالات وآراء

مشردو الشهداء : الإنسانية مطلب يتهرب منها معظم الأشرار

د. مهدي تاج الدين عبدالنور

كنت في محطة الشهداء بأم درمان في ساعة مبكرة من الصباح، الناس يتهرولون ويجيبون الممرات الأسمنتية جيئة وذهابا أملا في وجدود مركبة أيا كانت تقلهم إلى حيث يشاءون، وهناك على مقربة من هذه الهرولة والجوقة ؛ عالم آخر يسوده الهدوء والاستقرار وكأنه لا ينتمي للزمان والمكان، مشهد مختلف في المعنى والمضمون. حياة بكاملها – أمهات وأطفال ورجال – هم ممن أُصطُلح من قبل المجتمع على تسميتهم بالمشردين، يفترشون على سطح إحدى القباب في جو لا يخلو من الأُلفة والتعاضد بينهم، الفتيات يقمن بغسل الملابس وأخريات تعدن الشاي وواحدة منهن تزين طفلة صغيرة وتمشط لها شعرها، وعلى مقربة من هذا كله، أطفال يلعبون بكل سرور وكأنما حيزت لهم الدنيا. يا الله أي مشهد هذا الذي أراه- تقطَّع القلب ألماً وتفطُّراً ، انهمر الدمع في عيني وأنا أحاول جر زكريات من الماضي البعيد ومما شاهدته وسمعته عن الإنسانية والإنسان، هؤلاء هم بشر مثلنا تماماً، وما الذي يمنع أن نكون نحن أيضا يوما كذلك – لطالما – الإنسان يظلم ويسفك الدماء ويهلك الحرث والنسل.
أهذا كله بفعل الإنسان ؟ صحيح إن الكلاب البرية هي الأكثر وحشية والأشد فتكاً بفرائسها، ولكن للأسف هذه الصفة اتصف بها أيضا بعض البشر في أوقات مختلفة من التاريخ.
الحقيقة التي يتهرب منها معظم بني البشر إنهم أكثر وحشية وشراً حتى من الشيطان الرجيم، لأن ببساطة الشيطان يقتصر دوره في الوسوسة ويترك للناس حق الإختيار، (وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي…*) ومن هؤلاء البشر من لهم نصيب من الوساوس أكثر بشاعة من الشيطان نفسه، بل يدفعونك بكل الحيل لتفعل هذا أو ذاك، ولايتركون لك فرصة حتي للإختيار، ولايوجد مثل يستدل به على ذلك أكثر من مقولة (الإنسان “عدو نفسه) ؟!!.
قال بعض الحكماء أصل المحاسن كلها الكرم، وأصل الكرم نزاهة النفس عن الحرام، وسخاؤها بما يملكُ على الخاص والعام. وجميع خصال الخير من فروعه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( تجاوزوا عن ذنب السخي، فإن الله آخذ بيده كلما عثر،وفاتح له كلما افتقر) ونقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه ما سئل شيئاً قط فقال لا. وقال بعض السلف: منع الموجود سوء ظن بالمعبود، إيماناً وتصديقا لقول الله تعالى( وما أنفقتم من شيئٍ فهو يخلفه وهو خير الرازقين).
إن المفارقة المحيرة هي إن معظم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يؤمنون إيمانا قاطعا بأن المسلم يندم على ما قد سلف منه من المعاصي ( لو أن عبدا خر على وجهه من يوم ولد إلى أن يموت في طاعة الله لحقره يوم القيامة ، ولِوَدَ أنه رد إلى الدنيا كيما يزداد من الأجر والثواب)، ومع ذلك نري معظم المسلمين اليوم هم أعداء أنفسهم بأفعالهم ومستويات أخلاقياتهم المنحطة، هل هولاء المنوط بهم الخلافة في الأرض؟!!.
إن وحشية الإنسان لاتعرف ديانة أو مذهب ولا حتى حدود، فكان هؤلاء الأسر والأطفال ضحايا لتلك الهمجية.

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..