أول طبيبة سودانية..الدكتورة خالدة زاهر..قائدة فيالق التحرير

بالثقافة العشائرية الأبوية التي كانت تربط بين أهل الحي في بداية أربعينات القرن الماضي، أتى نفر من أعيان حي الموردة الى والد خالدة زاهر واحتجوا أو اعترضوا على سماحه لابنته خالدة زاهر بالدراسة مع الرجال فرد الرجل: "بتي خالدة دي لو عجنوها مع رجال عجينتها مختلفة" ومن ثم رفض طلبهم بشجاعة وحسم.

خالدة زاهر الساداتي، من مواليد مدينة ام درمان وهي البنت البكر لضابط في الجيش السوداني وقائد للفرقة السودانية التي حاربت في حرب فلسطين عام 1948و أخت لتسع أخوات وتسعة إخوان، دخلت خلوة الفكي حسن في حي الموردة بأم درمان وهي صغيرة، وتلقت التعليم الأولي والأوسط والثانوي بمدرسة الاتحاد العليا التي كانت تسمى الارسالية في ذلك الوقت، وكانت تدرس بها بنات الاغريق حيث حرصت والدتها منذ الصغر على تعليمهم رغم انها لا تعرف القراءة والكتابة.. ولكنها كانت محبة للتعليم ولذلك حرصت على الاهتمام بتعليم أبنائها.
اعتمدت خالدة زاهر على نفسها كثيراً، فكانت تذهب بالطرماي الى المدرسة في ذلك الزمان، وهي تهوى القراءة والزراعة.
وكانت امرأة مناضلة كثيرة المشاركة في المظاهرات .. وقد قادت احدى المظاهرات من امام نادي الخريجين ثم تحدثت عن الحرية الحمراء، التي كانت حديث اهل سوق ام درمان عنها حينها لأنها كانت صغيرة السن، وجراء ذلك تم اعتقالها في اليوم الثاني من قِبَل قوات الشرطة وتمكن خالها من اطلاق سراحهــا .
وجدت خالدة زاهر نفسها فجأة في تحدٍ مع الذات ومع المجتمع المنغلق في
ذلك الوقت عندما شجعها والدها واسع الأفق على مواصلة مشوار تعليمها فكانت أهلاً لذلك التحدي بدخولها كلية غردون الجامعية كأول طالبة سودانية تدرس في مدرسة كتشنر الطبية مع زميلتها ذات الاصول الارمنية زروي سكركسيان، يحكى أن هنالك بعضاً من أعيان حي الموردة وهو الحي الذي تسكنه اسرة خالدة زاهر " فريق ريد" وبعض أعيان أمدرمان كانوا ضد فكرة تعليم المرأة ناهيك عن مواصلة تعليمها الجامعي وعملها بعد التخرج.
كان ذلك هو التفكير السائد في ذلك الزمن وهو أن تظل البنت حبيسة المنزل الذي يعتبر مكانها الطبيعي. وبالنهج العشائري الأبوي أتى ذلك النفر اٍلى والد خالدة زاهر واحتجوا أو اعترضوا على سماح والدها لها بأن تدرس مع الرجال حيث يقول بعض من حضروا ذلك اللقاء أن والد الدكتورة خالدة زاهر رد عليهم علي حد قوله: "بتي خالدة دي لو عجنوها مع رجال عجينتها مختلفة" ومن ثم رفض طلبهم بشجاعة وحسم. إذ كانت تربية والد خالدة زاهر لأبنائه وبناته تعتمد على الثقة والحرية، فكان يعاملهم على حد تعبيرها: "بمبدأ ما نراه صحيحاً، نعمل به.. وهذا ما دفعني للاجتهاد في الحياة والعمل بالشكل الذي اعتقد انه كان صحيحاً بالنسبة لي ولعائلتي".
تخرجت كأول طبيبة سودانية في عام 1952م، وكان ذلك حدثاً مهماً ومشهوداً في تاريخ تطور المرأة السودانية، ولم تقف دكتورة خالدة عند ذلك الحد في تعليمها بل استطاعت ان تحصل على مؤهل فوق الجامعي في وقت كان مجرد خروج المرأة من منزلها ضد الأعراف السودانية في نظر الكثيرين، حيث نالت دبلوماً في الصحة العامة وتخصصت في طب الأطفال في تشيكوسلوفاكيا، ونالت الدبلوم من انجلترا. وكان ذلك حدثاً مهماً ومشهوداً وخطوة رائدة في تاريخ تطورالمرأة السودانية.
وقضت فترة الامتياز في عنبر النساء بمستشفى أمدرمان الذى كان يديره الدكتور عبد الحليم محمد آنذاك.
وقد عملت الدكتورة خالدة زاهر طبيبةَ في وزارة الصحة السودانية وتدرجت في السلك الوظيفي حتى وصلت إلى درجة وكيل وزارة . جابت من خلال عملها كطبيبة كل أقاليم السودان مناديةَ وناشرةَ الوعي بصحة الطفل والمرأة وحقوقها ومحاربة العادات الضارة حيث قدمت كثيرًا من الخدمات الكبيرة والجليلة عندما عملت لفترة
من الزمن مديراً لمركز رعاية الطفل بأمدرمان، كما شاركت في العديد من المؤتمرات الطبية خارج البلاد.
انتظمت خالدة في العمل السياسي وهي طالبة وعملت في النشاط السري والعلني، كان لها نشاط سياسي واضح بالجامعة حيث شاركت في قياده اتحاد الطلاب في أواخر الاربعينيات وبداية الخمسينيات. ومن خلال اٍيمانها بقضايا تحقيق العدالة الاٍجتماعية وقضايا تحرر المرأة اٍنضمت اٍلى الحزب الشيوعي السوداني وصارت أول امرأة تحصل على تلك العضوية. قادت المظاهرة الشهيرة من نادي الخريجين في 1946م ضد الجمعية التشريعية فطلب منها الاتحاديون أن تلقي كلمة، فتحدثت عن الحرية الحمراء رغم صغر سنها فكان حديث سوق أمدرمان عنها في ذلك الوقت واعتقلها البوليس في اليوم الثاني، وتحفَّظوا عليها في المكتب ثم أرسلت إليها والدتها خالها عثمان الذي قابل (أبارو) وأطلق سراحها، وكانت هذه أول تجربة لها مع الاعتقال. وبعدها خرجت مظاهرة أخرى من جامعة الخرطوم لكن لم تشارك فيها خالدة وهي المظاهرة التي فصل فيها محجوب محمد صالح، وعلى الرغم من عدم مشاركتها تم اعتقالها بواسطة ضابط بوليس اسمه الديب. شاركت خالدة الحركة الوطنية في نضالها ضد المستعمر بجسارة فائقة قائدةً للمظاهرات وخطيبةً اعتلت منبر نادي الخريجين في أواخر أربعينيات القرن الماضي في زمن لم يكن يسمح فيه للمرأة بالخروج من المنزل وقد تم اعتقالها من جانب المستعمر نتيجة لذلك النشاط، ولم يتوقف نشاطها السياسي بعد خروج المستعمر بل تواصل، وساهمت بفعالية في كل القضايا التي تهم الوطن والمواطنين ومدافعة بشدة عن الديمقراطية ورافضة لكل أشكال الديكتاتورية.

ظل على الدوام ضمن منظورها ومن أهم اهتماماتها قضايا تحرر المرأة السودانية ومساهمتها جنباً اٍلى جنب مع الرجل في تفاصيل الحياة وتطور المجتمع وسعت اٍلى تحقيق ذلك الهدف بصبر وعزيمة واصرار. كانت تعلم أن تحقيق هذا الهدف يتطلب من المرأة شيئين هما تأسيس تنظيمها الخاص بها ونشر الوعي، ومن ثم كونت وهي في بداية تعليمها الثانوي مع الأستاذة فاطمة طالب "رابطة المرأة ومن ثم لاحقاً ساهمت وكوّنت مع كوكبة من الرائدات السودانيات أمثال حاجة كاشف، فاطمة أحمد اٍبراهيم، نفيسة المليك، أم سلمة سعيد، عزيزة مكي، نفيسة كامل… على سبيل المثال وليس الحصر تنظيم الاٍتحاد النسائي السوداني ومن ثم اختيرت أول رئيسة له.

وهي أيضاً اول من قام بتكوين تجمع نسائي في السودان.. مع فاطمة طالب إسماعيل باسم (رابطة الفتيات الثقافية) بأمدرمان عام 1946م ، وهي من العشر الأوائل اللائي أسسن الاتحاد النسائي السوداني عام 1952 م والذي تولت رئاسته في أواخر الخمسينيات، وقتها كانت حركة تحرير المرأة السودانية لا تزال في بدايتها. ولا تزال ضعيفة، وتعارضها الغالبية من المتعلمين وغير المتعلمين ولكن مع ذلك كان هنالك اتفاق عام وسط السودانيين بأن تمنح المرأة بعض الحقوق، لذلك تكللت مجهودات النساء آنذاك بإحراز تقدم ولو كان بطيئاً، منحت المرأة مزيداً من الحرية في التعليم والحياة الاجتماعية بفضل نساء مجتهدات منهن الدكتورة خالدة زاهر التي ناضلت من أجل المرأة السودانية كثيراً في الداخل والخارج حيث شاركت في العديد من المؤتمرات المحلية والعالمية في أصعب الظروف كمؤتمر السلام على سبيل المثال.

واصل الاتحاد النسائي ومنذ نشأته نضاله الضاري والدؤوب في تحقيق مكتسبات للمرأة السودانية لم تحققها تنظيمات نسائية في كثير من البلدان العربية والأفريقية حتى اليوم واستطاعت المرأة السودانية بنضالها أن تدخل العديد من المجالات التي كانت في السابق حكراً على الرجل مثل البرلمان السوداني كما تبوأت مراكز متقدمة في كل الوزارات الحكومية ، جامعة الخرطوم ، القضاء ، الاٍدارة ، الشرطة، القوات المسلحة….الخ . شاركت الدكتورة خالدة زاهر في العديد من المؤتمرات الطبية داخل وخارج البلاد، وهي عضو مؤسس لجبهة الهيئات التي تكونت إبان ثورة أكتوبر 1946م. منحتها جامعة الخرطوم الدكتوراة الفخرية في 2001 في احتفالها الماسي في 24/2/2000 وذلك لريادتها ومساهمتها في تطور المجتمع السوداني ومساندتها قضايا المرأة. وفي مقال لشقيقها عدنان زاهر في مجلة الديمقراطي بمناسبة عيد ميلادها الثمانين في 2006م ورد ما يلي: " إنها باشرت بمسئولية وعقل وقلب مفتوحين شئون أسرتها الكبيرة. وساهمت مع أشقائها المرحوم الأستاذ أنور زاهر، والمرحومة الأستاذة فريدة زاهر والأستاذ هلال زاهر أطال الله في عمره في مساعدة اٍخوتها حتى أتموا تعليمهم الجامعي وكانت هي المثل الذي يحتذون به. ولا زالت تسهم وتعطي في سخاء.

كان هنالك دوما شئ ما يميزها وهو شجاعتها وجرأتها وقدرتها على قول الحق وإبداء الرأي مع النظرة الثاقبة للمستقبل وسعة صدرها في سماع صوت الآخرين. ذلك النهج أجبر حتى من يخالفونها الرأي على احترامها. ففي رحلة لها الى القاهرة التقت في حفل عام ببعض قادة المعارضة في ذلك الوقت. وفاجأت الجميع عندما خاطبتهم قائلة "مش أحسن الناس يناضلوا ضد هذا النظام من الداخل بدل العمل من الخارج"؟ حقيقة توصل اليها بعض من أولئك القادة بعد سنوات طوال!

ويقول شقيقها: "أتذكر بعد خروجي من المعتقل في عام 1992 وكنت وقتها أسكن معها في منزلها بالعمارات بالخرطوم قامت بشجاعتها المعهودة بالاتصال بكل من تعرف من رجال الرأي والقانون ومن ضمنهم في ذلك الوقت المحامي أبيل ألير لتوضيح ما تعرضت له وحالتي الصحية المتدهورة. كنت أشفق عليها كثيراً خوفاً من أن تتعرض لمثل ما تعرضت له لكنها لم تبالِ في وقت صمت فيه الكثيرون."
وقالت عنها رفيقة دربها الأستاذة نفيسة المليك التي أرَّخت لعلاقتها بالدكتورة خالدة زاهر من قبل نشاط الحركة النسائية والاتحاد النسائي بحكم الجيرة في حي الموردة بأم درمان متحدثةً عن العلاقات الطيبة التي كانت تربطهم ببعض كما كانت لهما العديد من الأفكار المشتركة في هم الوطن ورفع مستوى الوعي العام للمرأة السودانية، تضيف: وقمنا بالعديد من النشاطات معاً، وتعتبر خالدة من رائدات العمل العام مثل كثيرات من نساء السودان اللائي أتيحت لهن فرصة التعليم في وقت كان فيه تعليم المرأة تحدياً كبيراً. وأضافت الأستاذة الصحفية آمال عباس أن الدكتورة خالدة والسيدة نفيسة المليك والمرحومة الاستاذة نفيسة كامل وغيرهن كلهن اسهمن بصورة واضحة في مسيرة المرأة السودانية على مر التاريخ وأنا اعتبرهن قدوة لي إذ أنني عاصرت بعضاً من مسيرة نضالهن من أجل نصرة المرأة وانتزاع حقوقها وتحريرها من الأفكار والعادات البالية التي كانت تسيطر على المجتمع في الماضي وتحرم المرأة من أبسط حقوقها، ولا زلن يواصلن العطاء اللامحدود في نكران للذات، حفظهن الله ذخراً للوطن وأطال في أعمارهن.

تؤمن الدكتورة خالدة yيماناً كاملاً بأن الجيل الجديد من النساء يقع عليه عبء
قيادة العمل النسائي والاٍجتماعي، وتؤكد بتواضع أن هذا الجيل أقدر من جيلها على تفهم مشاكل عصره ووضع الحلول المناسبة لها، إذ أن المرأة السودانية بعد اسهاماتها المختلفة في الحركة الوطنية ونهضة المرأة ونجاحاتها في العمل الاجتماعي أصبح اليوم دورها أعظم خاصة بعد تقلُّدها المقاعد الدستورية والقانونية واقتحامها للعديد من المجالات مما يضاعف اعباءها في الحفاظ على ما حصلت عليه واكتساب المزيد من الحقوق ، وتلك هي سنة الحياة.
عرف عن خالدة أن لها هوايتين أساسيتين هما القراءة والزراعة، وقد زرعت حديقة في منزلهم بمساعدة اخوتها الذين ساعدوها في جلب التراب من شاطئ النيل للزراعة.

كرّمها منتدى المبادرات النسائية بمناسبة اليوم العالمي للمرأة كأول طبيبة سودانية في 13 مارس 2010م.

تُردد الدكتورة خالدة زاهر كثيراً الحديث عن جذورهم في دارفور التي انقطعت منذ سنوات بعيدة فهم ينتمون الى ( الكنجارة) الذين حكموا دارفور.

ظلت على الدوام تؤكد عشقها للوطن رغم تجوالها ما بين مقر إقامتها في لندن، وسويسرا حيث تعيش ابنتها وشقيقتها، وكندا حيث يعيش بعض أشقائها ولكنها تداوم على المجئ سنوياً الى السودان.

تزوجت الدكتورة خالدة زاهر وهي لا زالت طالبة في الجامعة من أحد مؤسسي حركة اليسار في السودان الأستاذ عثمان محجوب عثمان الشقيق الأكبر للمرحوم عبد الخالق محجوب والأستاذين محمد وعلي محجوب. وقد اشترط والدها عليه ان تكمل تعليمها، ولها من الأبناء الدكتور احمد الموجود ببريطانيا، الأستاذ خالد الذي يعمل بجامعة جوبا وآخر العنقود بنت تحمل شهادة االدكتوراة . وهم عصارة جهدها وتنشئتها مع رفيق دربها المرحوم الأستاذ عثمان محجوب.

إعداد:مها عبد الخير
صحيفة الحقيقة

تعليق واحد

  1. الدكتوره خالده فعلا كما قال والدها عليه الرحمه لو عجنوها مع الرجال عجينتا مختلفه
    عيبنا فى السودان ان عظمائنا يرحلون عنا وتدفن معهم كنوز من المعرفة والخبرة والتجارب الثره ، أطال الله عمر د/خالده ومتعها بالصحة والعافية وأرى برا منها للقامة الشامخه والدها قائل العبارة الفصل أن توثق للأجيال القادمه وللتاريخ هذه المسيره الثره وأن تهدى التوثيق للوالد النبيل تقديرا لمواقفه البطولية التى منحت السودان د/بقامة خالده
    اتمنى ان استخدم اللولبى المحبب لها أستاذ عدنان واستاذه شاديه واللولبى الأكبر روح والدها حتى تدوم ذكراه بهذا التوثيق
    مع مودتى
    سعيد عبدالله سعيد شاهين
    كندا تورنتو

  2. الكتوره خالدة فخر للمرأه السودانيه ورمز من رموز بلادى لك التحية والتجله واطال الله فى عمرك انشاء الله يا فخر الكنجارا ودار فور عموما

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..