مقالات وآراء سياسية

السلام الخيار الصعب (2)

د. السموءل محمد عثمان

كنا  قد تناولنا في الجزء الأول  من هذا الموضوع  سياسة المقايضة  وتوزيع المناصب والأموال التي تدفع  في مفاوضات السلام ،  التي سيطرت على مفاوضات السلام السودانية في عهد المؤتمر الوطني مع الحركات المسلحة  لاستمالة قادة هذه الحركات ، دون العمل على الحل الجذري لأصل المشكلة ، ولانقول تقسيم السلطة والثروة لأن معناها غير ، فتلك كانت استمالة الحركات المسلحة  بعدد من المناصب والأموال الطائلة التي تدفع لهم ،  ودون العمل  على ماتحتاجه هذه المناطق التي  شهدت الحرب من تنمية  وتطوير لخدمات التعليم والصحة والخدمات الأساسية  للمواطن ، بعد رفع الحركات المسلحة  السلاح منادية بالتنمية والأعمار، مما جعل الأرضية التي يقف عليها هذا السلام هشة ، لأن التنمية والأعمار هي التي تجعل الناس حول السلام ، فبالتنمية يبنى السلام .
نذهب هنا إلى جانب مهم وهو حفظ  المواثيق والعهود في المفاوضات السودانية  ومدى تأثير نقض تلك العهود في انهيار عملية  السلام ، ونشير هنا كمثال أكثر تمييزاً   إلى اتفاقية أديس أبابا في عهد الرئيس نميري  التي كانت خطوات واسعة وحقيقية في طريق حل مشكلة جنوب السودان ،وما اعترى تلك الاتفاقية من بعد   لتظهر عدة مؤلفات مثل جنوب السودان “التمادي في نقض المواثيق والعهود ” لمؤلفه  أبيل الير  والذي  قام بترجمته  الأستاذ بشير محمد سعيد .
يصف بشير محمد سعيد أبيل ألير في التقديم لهذا الكتاب بأنه زعيم سوداني بارز اشتهر بغزارة الثقافة ، وعمق الفكر وشجاعته ، وفصاحة اللسان ، وسعة الإطلاع  وتعدد الخبرات هادئ الطبع وتميزه ابتسامة ساحرة ومشرقة ، تنحدر أسرته من قبائل الدينكا النيلية التي عرفت بقوة البأس والشجاعة والكبرياء والثراء ،  ويقول أبيل ألير عن نفسه  بدخولي جامعة الخرطوم في عام 1955م ، كنت ثاني سوداني جنوبي يدرس القانون بعد جوزيف قرنق، وأصبحت أول جنوبي يعين في القضاء كمساعد قضائي.

شغل ابيل ألير منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية لسنوات  وأول رئيس لحكومة
الجنوب  الانتقالية أول الأمر ، ثم انتخب لشغل هذا المنصب الرفيع عدة مرات يقول أبيل الير عن تلك الفترة ، أنه استطاع   خلال الفترة الانتقالية أن يرسي مع مساعديه الأسس السليمة للإدارة الجديدة  وأن يبذل جهد الجبابرة في إعادة اللاجئين وتوطينهم  وإعادة تأهيلهم ، وفي خلق حالة  من حسن الثقة بين الجنوب والشمال  واستطاع بعد تلك الفترة أن يمضي قدماً في توفير أسباب الأمن للمواطنين ، وفي تقديم الخدمات في مجالات التعليم والصحة ، وتعبيد الطرق  وتشييد الكباري  وتطوير الزراعة  وغيرها بصورة تفوق الخيال ، وخلال هذه الفترة حصل الجنوب على برلمان منتخب ، وعلى حكومة ديمقراطية مسئوله أمامه ، وعلى خدمة ادارية ومدنية ممتازة ، وخلال هذه الفترة أيضاً تم الاتفاق على تحويل قدر كبير من مياه النيل الذي يركض في المستنقعات بالجنوب إلى قناة جنقلي ، بالإضافة للخدمات الاجتماعية والاقتصادية التي تقرر تقديمها لأهل منطقة القناة ، وبدأ بالفعل العمل لتنفيذ هذا المشروع العملاق ، ليس ذلك فحسب ، بل تم خلال هذه الفترة اكتشاف النفط في الجنوب بكميات ضخمة ، وكيف تم التقدم المرضي رغم الصعوبات الضخمة في التعليم على كافة المستويات والمراحل ، مماتوجته جامعة جوبا ، وفوق هذا وذاك كيف رفرفت أعلام الأمن والأمان الذي بشرت به التسوية .
غير أن هذا الحلم  الجميل لم يدم طويلاً ، إذ أقدم نميري ونقض المواثيق بتقسيم جنوب السودان لثلاثة ولايات ( الاستوائية ، بحر الغزال ، أعالي النيل ) ليرجع بالمشكلة للمربع الأول . وان كان عذر النميري بأنها كانت مطالب الجنوبيين في زيارة من زيارته للجنوب ، فهل هتاف الناس في استقبالهم لرئيس البلاد ممكن أ ن يؤدي لنقض مواثيق الاتفاقيات والمعاهدات . وفي مايو 1983 اندلعت نيران الثورة في الجنوب من جديد ، وامتد لهيبها إلى مناطق أخرى في السودان .
وثمة جانب أخر وهو عملية بناء الثقة ، فتلك المواثيق والعهود عجزت عن بناء الثقة بين المتفاوضين ، نستعرض هنا ماقاله حتى ابيل الير برغم المناصب الهامة التي شغلها ،وهو يتناول غرس بذور الكراهية والعنف وهو يتناول سيرة التاجر السوداني الجعلي الزبير رحمة منصور عندما تحدث عن تجارة الرقيق ، كيف أنه كان يقتلع قبائل الفرتيت من جذورها ، ويشق الطرق لتعبر عليها قوافل الرق والعاج عبر بحر الغزال ودارفور وكردفان .لتأتي حكومة السودان بعد الاستقلال في عام 1956 م فتطلق أسمه على أحد شوارع العاصمة القومية ، غير حافلة بمايثيره ذلك من أسى وحسرة في نفوس أهل الجنوب ، ولكن ربما أحس أبيل ألير في فترة متأخرة بعد تأليفه لهذا الكتاب بأن هناك افتراضات ليس لها أساس .
يظهر ذلك جلياً في قول ابيل الير أن هذا الكتاب قد استغرق خمس سنوات وتعرض للتغيرات كثيرة ، لقد قرأ كثير من الأصدقاء مسودة هذا الكتاب ، ونبهوني إلى بعض الافتراضات التي لايوجد لها مايبررها ، وهذه الافتراضات هي التي تحكي عن غياب الثقة ، و يقول الأستاذ بشير محمد سعيد وهو من قام بترجمة الكتاب  ( ونسبة لحاجتنا نحن السودانيين الشماليين للإلمام بهذه المشكلة عبر بصر وبصيرة جنوبية  وللتعرف على مأخذ أهل الجنوب على الشمال ، اتفقت مع السيد ابيل الير على ترجمة هذا الكتاب النفيس إلى اللغة العربية ، فلنأمل أن يحقق هذا  الجهد الغرض المنشود منه  وأن يفتح أمامنا آفاقاً جديدة من الوعي والإدراك   تعيننا على حل هذه المشكلة الرهيبة بما يحقن دماء أهل السودان ، ويوفر أسباب الثقة بينهم ، ويصون وحدة قطرهم ، وينتشله من الوهدة السحيقة التي تردى فيها سياسياً ، اجتماعياً ، اقتصادياً ودولياً ) . أن لي بالطبع بعض الملاحظات والتحفظات على ماذهب إليه السيد ابيل الير في أجزاء من كتابه هذا  قد أتناولها في دراسات وبحوث مقبلة ، ويقول بشير محمد سعيد أن من أطلق اسم الزبير باشا على الشارع ليس هي الحكومة السودانية بل هي الجهة المستعمرة .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..