مستقبل حزب الأمة بعد وفاة زعيمه السيد الإمام الصادق المهدي..
علي مالك عثمان


(1)
في البدء نتقدم بأسمى آيات التعازي، وأحرَّ المواساة للشعب السوداني عامة ولجماهير حزب الأمة وكيان الأنصار بصفة خاصة، في وفاة السيد الإمام الصادق الصديق المهدي، السياسي السوداني الكبير، والمفكر الإسلامي البارز، وزعيم حزب الأمة وكيان الأنصار، والذي وافته المنية في ساعة متأخرة من ليلة الأمس.
الفقيد الراحل لعب دوراً هاماً وبارزاً في الحياة السودانية في فترة ما بعد استقلال السودان عن الحكم الإنجليزي في يناير ١٩٥٦م. كان الفقيد رقماً هاماً في كل الأحداث والمنعطفات الكبيرة التي شهدتها البلاد منذ ذلك التاريخ وحتى وفاته. حيث أنه تقـلَّد منصب رئاسة وزراء السودان في حقبتين مختلفتين، كما تزعَّم العمل السياسي المعارض ضد نظاميْ جعفر النميري في السبعينات من القرن الماضي، وضد نظام عمر البشير في تسعينات القرن الماضي، وخلال العشرية الأولى والثانية من هذا القرن..
أيضاً للراحل الكبير مساهمات في الفكر الإسلامي، وحوار الأديان والحضارات، كما أن له عددٌ كبير من المؤلفات في السياسة والفكر والاجتماع، جعلتْ منه عَـلَماً بارزاً، وإسماً معروفاً في العالم أجمع. كل ذلك يجعلنا نجزم أن وفاة رجل بتلك السيرة والمكانة ستُـلقِي حتماً بظلالها الكبيرة على أوضاع السودان عامة، وعلى حزب الأمة وكيان الأنصار بدرجة أخص..
(2)
الأحزاب الطائفية في السودان، والتي يُمثِّـل حزب الأمة أحد جناحيْها، والحزب الإتحادي الديمقراطي بزعامة السيد محمد عثمان الميرغني – أمدَّ الله في أيامه – جناحها الآخر، هي أحزاب صَنَعها المستعمر البريطاني، وأضفىٰ عليها الكثير من القداسة لدى أبناء الشعب السوداني، وأفاض عليها الكثير من الهبات والإمتيازات، ومَنَحها الكثير من الأراضي والإقطاعيات، وتعهَّد أبناء بيوتاتها الكبيرة بالرعاية والتعليم. لذا نجد أن تلك الأحزاب الطائفية لم يكن حظها في النضال لإخراج المستعمر من البلاد كبيراً. كما أن أداءها السياسي في الحقبة التي تَـلَت خروج المستعمر إتَّسم في غالِـبِه بالمحافظة على إمتيازاتها ومكاسبها الاجتماعية التي تركها لها المحتل البريطاني، ولم تُساهِم بقدرٍ كبيرٍ في إنتاج مشاريع وطنية واضحة، تعالج مشاكل البلاد التي خلَّفها خروج المستعمر، والتي تمثَّـلت في مشاكل الحرب التي اندلعت في جنوبه قبل عامٍ من الاستقلال، ومشاكل التنوُّع والهوية، والصرعات الإثنية والقبلية، ومشاكل عدم التنمية المتوازنة.
(3)
أكثر ما سيأخذه المتابعون لأداء السيد الإمام طوال زعامته لحزب الأمة في تقديري هو أنه لم يَسْعَ بصورة واضحة وكبيرة في تطوير عمل الحزب، والارتقاء بأدائه السياسي، وتطوير مؤسساته الداخلية، وإضفاء قدرٍ من الحداثة والمؤسسية والممارسة الديمقراطية الحقَّة داخِلَهُ. بل حافظ السيد الإمام في تقديري على النمط الطائفي للحزب، والذي وَرِثه من آبائه المؤسسين، على الرغم من التعليم الراقي والمُـتميِّز الذي ناله سماحته عليه الرحمة، وما تمتع به أيضاً من تميُّز فكري، وحداثة واضحة في أطروحاته. لذا يستغرب المرء حين يرىٰ أن حزباً بتلك الجماهيرية، وعلى رأسه زعيماً بتلك الإمكانيات، يُدار بطريقة بدائية وعشوائية، ولا تُمارَس داخِلَهُ ديمقراطية حقيقية؟!
لن نقوم بجردة حسابية لأداء الحزب وممارسته السياسة خلال الحقبة التي تقـلَّد فيها السيد الإمام الصادق المهدي زعامته السياسية والدينية، لأن المقال يهدف بالدرجة الأولىٰ لرسم صورة تقريبية لمستقبل الحزب بعد وفاة زعيمه، فضلاً على أن المقام لا يتسع. لكن الروح الطائفية والممارسة البدائية والعشوائية التي أشرنا لها آنفاً كانت بادية للعيان في ممارسة الحزب للسياسة، الشيء الذي أضعف أداءه وتأثيره السياسي كثيراً في محطات مفصلية هامة من تاريخ البلاد، لا يتسع المجال لحصرها.
(4)
يضاف للبدائية والعشوائية وعدم المؤسسية أيضاً التشظِّي والإنقسامات التي عصَفَت ببيت المهدي منذ فترة مُـبْكرة عقب وفاة السيد عبدالرحمن المهدي، جَـدُّ السيد الصادق، والتي انعكست بدورها أيضاً على أداء الحزب. والمؤسف أن السيد الصادق المهدي، عليه الرحمة، لم يعمل على احتوائها وتقليل آثارها السالبة على الحزب. استمرت تلك الخلافات في التصاعد إلى أن وصلت ذروتها في خلاف السيد الإمام مع ابن عمه مبارك الفاضل، والذي كان كثيرون يعتبرونه الأجدر بخلافة السيد الإمام على زعامة الحزب. لكن في ظنِّي أن الخلافات توسَّعت دائرتها بين الرجُليْن، وإنتقلت لتشمل أبناء السيد الإمام أنفسِهم، وبالتالي اتسع خرقها على أيِّ راتقٍ قد يسعىٰ في رتقها وإعادة لُحْمتِها من جديد.
(5)
يُضاف لِما ذُكر أعلاه أن السيد الإمام أيضاً أضعف كل رجالات الصف الثاني داخل الحزب، وهمَّش من ظهورهم ومشاركتهم في اتخاذ القرارات داخله، كما أنه لم يعمل على تهيئة قيادة شبابية، تحفظ للحزب تماسكه واستمراريته. ومَنْ يُقارِن رجالات الصف الثاني داخل حزب الأمة، عقب انتفاضة أبريل ١٩٨٥م، أمثال د. عمر نور الدائم ود. موسى مادبو وعبدالرسول النور وغيرهم، بمن هم موجودون حالياً، يُدرك تماماً صحة زعمنا هذا، وما نقصده بضعف رجالات الصف الثاني داخل الحزب حالياً.
أيضاً السيد الإمام في تقديري لم يسْعَ بصورة جادة في تلميع وتدريب أحد أبنائه الذكور لخلافته ووراثة زعامة الحزب وكيان الأنصار. ومن يتابع سلوك السيد الإمام في سنواته الأخيرة تجاه أبنائه، يظهر له بوضوح تقديمه لإبنته الدكتورة مريم المنصورة على ما عداها من إخوتها الذكور. ويَحَارُ المرءُ كيف أن السيد الإمام فاتت على فطنته أن “الذكورية” متأصِّلة ومتجذرة، داخل مجتمعٍ لا يزالُ متخلِّفاً وبدائياً، كالمجتمع السوداني؟! كما أن السيد الإمام في تقديري قد قام بحرق أوراق إبنه الأكبر عبدالرحمن عندما سمح له بالمشاركة في نظام الإنقاذ البائد كمساعد للمخلوع عمر البشير. يضاف لذلك أن الشعب السوداني حقيقة لم يتعرف على بقية أبناء السيد الإمام الذكور إلا في السنوات الأخيرة، مما جعلهم – بصفة عامة – مجهولين بالنسبة له، وفِكرَتِـه عنهم ليست كبيرة، وذلك لأن أيَّاً منهم لم تُسند إليه مهام حزبية واضحة، سواء في الموالاة للحكومة أو في معارضتها، تُعرِّفَهُم إليه. واللَّوم في ذلك يقع في تقديري على السيد الإمام عليه رحمة الله.
(6)
يضاف إلى عوامل الضعف السياسي التي انتابت حزب الأمة في العقود الأخيرة ما تعرَّض له الحزب من تنكيلٍ وإفقار ممنهجـيْن، وتجفيف لكل موارده المالية التي كان يتمتع بها، من قِـبَل نظام عمر البشير وزبانيته. كما أن نظام البشير أيضاً إستمال الكثير من كوادر حزب الأمة إليه، بعد أن أشهر لهم سيف المعز وذهبه. ولا يستغربنَّ أحدٌ ذلك، فقد عُـرِف عن نظام عمر البشير ومَنْ كانوا يُسيِّرونه، أمثال علي عثمان ونافع علي نافع وصلاح قوش، أنهم ما كانت تأخذَهم رحمةٌ في البطش بخصومهم والتنكيلَ بأعدائهم، ولا يمنعهم من ذلك وازعٌ ولا دين.
على أن أكثر ما أضعف حزب الأمة في ظني خلال العقدين الماضين هو الحرب الضروس التي اندلعت في إقليم دارفور في العام 2003م، والتي أضعفت كثيراً من تأثيره ونفوذه في حاضنته الشعبية، وبيئته السياسية، ومركز ثِقَـلِهِ الانتخابي. وذلك لأن حركات الكفاح المسلح، التي نشأت بفعل هذه الحرب، هي التي ملأت الفراغ الذي تركه غياب حزب الأمة، وسحَبَت البساط من تحت أقدامه، وأصبحت اللاعب السياسي الأول في إقليم دارفور. وما يُدلل على هذا الزعم هو فشل حزب الأمة طوال سنوات الحرب في دارفور من القيام بأيِّ دورٍ مؤثر وملموس في مسار الحرب، وكأنها لا تجري في مناطق نفوذه وثِقَـلِه الشعبي؟!! هذا النفوذ السياسي لحركات الكفاح المسلح في إقليم دارفور، والذي راكمته خلال سنوات الحرب، سيظهر في تقديري في أول انتخابات سياسية قادمة تُجرىٰ في الإقليم.
يجب أيضاً ألا يفوت على رصْدِنا هذا ما أظهرته ثورة ديسمبر المجيدة من وعيٍ سياسيٍّ مُتقـدِّم لدى شباب الثورة، الذين قادوا صفوفها، وكانوا وقودها الأول. هذا الوعيُ في ظني تجاوز كل الحدود الطائفية والإثنية والقبلية، وأثبت أن هذا الجيل لا يمكن أن يُقاد بطريقة الريموت كنترول التي كانت تُـقاد بها جماهير الحزبيْن الكبيريْن في الماضي. وهذا عاملٌ آخر ،خارجي وغير ذاتي، سيُضْعِف بالتأكيد من نفوذ وتأثير حزبيْ الأمة والاتحادي في المستقبل القادم.
(7)
في خلاصة هذا المقال، وكنتيجة لِكُـلِّ ما تمَّ سردُه فيه من أسباب وعوامل تخصُّ مستقبل حزب الأمة، يمكننا أن نقول مطمئنين: أن حزب الأمة القومي، الذي نشأ مع استقلال السودان عن المحتل البريطاني، وتسيَّد الساحة السياسية في سودان ما بعد الاستقلال، سيرقد بسلام بجانب زعيمه السيد الإمام الصادق المهدي، وسيضُمَّهما قبرٌ واحد، ولن تُجدِي نفعاً كل المحاولات التي سيبذلها أبناء السيد الإمام، وقيادات وشباب الحزب، في إنعاشِه وإعادتِه للحياة مرةً أخرى، لأن الحزب أصيب بالشيخوخة السياسية التي ليس بعدها إلا تحرير شهادة الوفاة. فضلاً عن أنه طوال السنوات الماضية كان ميِّـتاً إكلينيكياً، وكان يسير فقط بما تبقىٰ للسيد الإمام من كاريزما سياسية، ومكانة علمية وروحية. كما أن ممارسة السياسة على الطريقة الطائفية، التي كانت سائدة في الماضي، قد تجاوزها الزمن، وتجاوزتها هذه الأجيال الشابة، التي ستقول كلمتها في المستقبل السياسي لهذا السودان في أقرب انتخابات قادمة.. والله أعلم.
