مقالات وآراء سياسية

التطبيع ومنطق الطائرة المنكوبة 

حسن ابوزينب عمر 

 

في 13 اكتوبر من عام 1972 انتهت الرحلة 571 لطائرة سلاح الجو الاوروجواني المتجهة من مطار العاصمة مونتفيديو الى مطار سانتياجو التشيلي الى كارثة جوية بعد تحطم الطائرة على ارتفاع 3600 قدم فوق سفوح جبال الانديز ومصرع 29 من الركاب وكل طاقم الطائرة الست من جملة 40 شخصا كانوا على متنها . ثلاثة أسابيع من البحث المضني عن الحطام انتهت بالفشل لردائة الطقس ووعورة المنطقة  فأوقفت فرق الانقاذ جميع عملياتها .

                                       (2)

الى هنا والامورعادية ولكن غير العادي وغير المألوف أتى بعد ذلك ففي وسط زمهرير الصقيع والظروف الجوية الصعبة لجأ الناجون وتحت وطأة الجوع الكافر الى أكل لحم زملائهم المتوفين الذين حفظ الجليد أجسامهم ..بعد 72 يوما وبعد استئناف عمليات البحث تم العثور بالصدفة على الناجين .. في لقاء مثير سأل مذيع لاحد القنوات الفضائية مستنكرا ناجيا أكل لحم جاره قائلا : اي وازع أخلاقي جعلك تقدم على هذه الفعل الشنيع  فكانت الاجابة .. لو كنت مكاني  لما تجرأت أن تسألني هذا السؤال .

                                     (3)

 

هذا الرد الفاحم الذي فرضه منطق الطائرة المنكوبة يعكس حال السودان الآن وهو مقوس الظهر منكفيء على نفسه يغازل امريكا (بايدن) بعد أن حفيت قدماه وراء أمريكا (ترامب) يتسول الطحين والمحروقات وكمامات الكورونا وضاعف مأساته المقاطعة التي فرضت عليه منذ اكثر من عقدين من الزمان في عالم مجرد من القيم والاخلاق تتحكم فيه وتحركه مصالح ذاق فيه السودان من الهوان والحرمان الوانا على يد ترامب الذي كان يتلاعب بخشبات المرمى ويحركها ويبعدها عن نقطة التهديف كيفما اتفق حتى أجبرنا أخيرا على الركوع لانتزاع ماتم تلقيطه ( القرش على التعريفة) لتسديد مازعمه تعويضات لضحايا المدمرة كول وسفارتي امريكا في نيروبي ودار السلام .ثم جاء يلوح بجزرة التطبيع مع اسرائيل (العملة السائدة الاكثر رواجا في المنطقة العربية هذه الايام ) مهرا لرفع المقاطعة .

                                         (4)

دفع السودان الغالي والنفيس وتجرع من المعاناة التي فرضت عليه حتى الثمالة نتيجة المكابرة وسوء قراءة الواقع الذي نعيشه والذي كان وراء عجزنا عن استيعاب وفهم الدروس والعبر الملقاة تحت اقدامنا ومنها ان   

بقائنا جامدين محنطين في محطة اللاءات الثلاثة خارج المحيطين الاقليمي والدولي وفي ظل هذا الحال الماثل أمامنا عبث لن يخدم السودان وليس من ورائه طائل و آن الأوان أن نكون أكثر براجماتية ونتجه لمصالحنا التي تعلى ولا يعلى عليها بتحكيم العقل بعيدا عن العواطف .

 

                                         (5)

 هواة المزايدات الذين يجهزون أصابع الاتهام و يخططون للسواطة في المياه العكرة يعلمون جيدا أن السودان قدم التضحيات تلو والتضحيات خلال أربعة  حروب خاضها ضد اسرائيل  ثم لم يكتفي ببث الروح ودفق الدم  في شرايين القضية العربية التي تيبست وتكلست عقب حرب حزيران بل رفض حتى المساعدات التي منحت للدول المتأثرة بالحرب في مؤتمر القمة بالخرطوم .

                                        (6)

الذي يبرر موقف السودان هو أن هناك شيء كان إسمه (النظام العربي)  يحمل تبعات المقاطعة لإسرائيل  .. اليوم ليس هناك نظام عربي ، وليس هنالك جامعة عربية ذات قيمة، فقد انتهى كل شيء الى دول منفردة تلهث وراء مصالحها حتى أصبح الانبطاح وتمرير المخططات الصهيونية والغربية يتم عينك ياتاجر .. الدعوات الى التطبيع كانت تتردد خجولة مستترة وعلى خفاء منذ أيام بورقيبة.. الآن لم تعد هناك حتى ورقة توت تستر العورة بل ستربتيزعربي يتم عرضه تحت الانوار الكاشفة من المحيط الى الخليج مع صور سيلفي بابتسمات عربية عريضة مع نتينياهو الذي دخل تاريخ اسرائيل كأكثر رؤسائها تطرفا .

                                         (7)

 أضف الى ذلك ماعادت المنطقة العربية تواجه إسرائيل وحدها، فقد ظهرت قوى أخرى أجرت اختراقات وحققت نجاحات تغلغلية واضحة وأصبحت لاعباً ذا خطر..  إيران أصبح لها بصمة واضحة في العراق وهاهي تمسك بتلافيف الفوضى السورية وتدير حكومات بالريموت كونترول في لبنان واليمن .. تركيا لفظتها المجموعة الأوروبية ورفضت طلبها بالإنضمام للإتحاد الأوروبي، فاتجهت صوب الشرق الأوسط، ولها وجود عسكري بالداخل السوري وبشمال العراق وليبيا .. روسيا أصبحت أيضا لاعبا أساسيا بالمنطقة . النتيجة لا أحد يتحدث الآن عن القضية الفلسطينية فحتى أهلها يعترفون باسرائيل وجاهزون للتعايش معها فلماذا نحرم من الرقص اذا كان رب البيت بالدف ضاربا  ؟

                                        (8)

ماتسرب من لقاءات المسئولين السودانيين مع الوفد الاسرائيلي والذي احيط بستار من الكتمان والسرية زاده غموضا اعتقال جوليان أسانج المبرمج الاسترالي ومؤسس ويكيليكس هو انها مفاوضات عسكرية بين الطرفين وهو أمر يدعو لرفع حاجب التوجس والخوف لكونه استعراضا يتم خارج حوش الاهداف المرجوة .

                                        (9)

حاجتنا لاسرائيل اقتصادية وهي الاستفادة من التكنولوجيا المتقدمة التي تمتلكها للاستثمار الامثل في العقارات والبناء والبنية التحتية والطاقة وتجارة التجزئة والصناعات الغذائية والسياحة والاتصالات واستصلاح الاراضي حيث تراكمت لديها خبرات عالية وبالذات في الاراضي شبه الصحراوية كما هو الحال في السودان .اضافة الى ذلك فلديها مراكز أبحاث متخصصة في امراض الملاريا ومكافحة الحشرات ومشاريع الامن الغذائي والرعاية الصحية وتنقية المياه وصيد الأسماك .

                                     (10)

اقتصار التعاون على الشق العسكري يعني أن تفتح ابواب السودان أمام مصانع السلاح الاسرائيلي وحذار أن ينتهي بنا الامر كمحاربين بالوكالة لاسرائيل تطارد القاعدة في شمال مالي وجنوب ليبيا وبوكو حرام في تشاد ونيجيريا ومنظمة الشباب في الصومال وهي جماعات يتوقع أن تنشط في السودان اذا تم التطبيع .

                                    (11)

 الابواب الآن مفتوحة على مصراعيها لكل الاحتمالات اذا تم عرض قضية التطبيع على المجلس التشريعي او البرلمان المقبل للموافقة أو الرفض ولكن أسوأ السيناريوهات بالتأكيد هو العودة الى مربع (بكل مايملكه الشرقي من مواهب الخطابة والعنتريات التي ما قتلت ذبابة) . 

حسن ابوزينب عمر

   [email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..