مقالات وآراء

اتفاقية جوبا للسلام: البداية لتعديل مسار الثورة

د. مهدي تاج الدين

في خضم التنظير والآمال العراض لسودان ما بعد ثورة ديسمبر التي اعتبرها البعض بداية لعهد جديد تُفسح فيه المجال لتحكيم المعرفة في كل أمور الحياة، أطلق أيضا البعض الآخر الكثير من المخاوف لما يمكن تسميته بالنكسة من منطلق أن الثورة التي أنجزتها  الشعب السوداني قد انحرفت عن مسارها وحادت بعيدة عن رغبات وتطلعات الجماهير، وكذلك  بعيدة عن شروط ومتطلبات بناء الدولة، وأن الثورة قد تمت سرقتها بالمعني الحرفي للكلمة.
وبالعودة للحدث نفسه ( الثورة ) كان من الممكن أن تكون مشروع للمصالحة على أرض الواقع بين أعداء الأمس المتحاربين أو المتشاكسين من دون التعرض إلى هزيمة شاملة لأحد الطرفين أمام الطرف الثاني – هذا إذا توافرت الإرادة الرغبة الحقيقة لإعلاء قيمة الوطن.
إن تحقيق السلام بعد الحروب والنزاعات المسلحة مسار طويل وعسير يتطلب الكثير من الجهود المضنية والاستثمار السياسي والاقتصادي الفعلي في عملية السلام. فكما أن السياسة يمكن أن تصنع السلام فإن الاقتصاد أيضا يعد ضلعا مهما من أضلع السلام.  فالسودان شهدت صراعات دموية في أزمان مختلفة من تاريخه، تلك الصراعات ناجمة عن سوء الإدارة وغياب الرؤية الثاقبة لإدارة التنوع والإختلافات الموجودة فضلا عن التنافس بين القوى المختلفة في بلد متعدد الأعراق والهويات ، إذ دارت الصراعات داخل الدولة نفسها وبينها وبين مواطنيها، وبين مواطنيها مع بعضهم البعض، وتبعاً لذلك ظل السودان حبيسة للأزمة الدائمة.
حسناً أن أولت الحكومة الإنتقالية ملف السلام جزءاً من اهتمامها ولكن التحدي يكمن في القدرة على ترجمة الإتفاق إلى سلام دائم، ولكي يتحقق ذلك، يجب على القوى المعنية بالاتفاق أن تعتبر أن الوضع الجديد الذي أفرزه الاتفاق لا رجعة فيه وأنه لا يتعارض مع مصالحها الحيوية وأن هذا الاتفاق الذي تم عادل ومشرِّف أيضاً.
تستطيع الحكومة والحركات الموقعة على الإتفاق والمجتمع المدني وضع إطار لحفظ السلام ،غير أنه لا بد من إشراك القوى الكبرى والمجتمع الدولي في هذه الجهود حتى تعزز نجاح فرص السلام، فالمسار صعب ومحفوف بالمخاطر ويتطلب الكثير من الجهود الوطنية والإقليمية والدولية المضنية.
من التحديات الكبيرة تصفية المظالم القديمة التي تسببت في إحداثها النظم السابقة التي تعاقبت على الحكم ، وهي أحدى ضرورات التحول نحو الحكم الرشيد حتى و لو تطلب الأمر تعويض الأفراد والجماعات المقهورة عما لحق بهم من مظالم. كما أن إظهار العدل من جانب القضاة والتسامح من جانب الشعب يعزز من عملية التحول . ولن يتحقق ذلك إلا من خلال التأكيد والتحديد لتوجهات جديدة تخص المجتمع وتعزز إحترام الرأي والرأي المعارض ، وتبني وجهات نظر الآخرين والاستعداد لتقبل الحلول الوسط والتوفيقية ، حيث أن التوجهات السياسية السائدة في نظم المجتمع السوداني لا تزال تدور في فلك الإثنية والتحزب الإقليمي وكذلك الرغبة في الانتقام وتصفية الحسابات مع الخصوم، وهو ما يضعف من كفاءة حكومة حمدوك وينذر بتدخل العسكريين والمعارضين وتقويض الحكومة الانتقالية ودفعها بعيدةً عن ترسيخ تجربة للحكم الرشيد، أو دفعها للدوران في حلقة مفرغة من التجريب.
لتفادي هذا الخطر- لابد من تحفيز و تعزيز المشاركة السياسية مشاركة فعالة ،
كما أنه لابد من ضمان قومية وحياد الجيش خاصة بعد الفراغ من الترتيبات الأمنية وفقا لاتفاق جوبا، إذ يعد حياد الجيش في الحياة السياسية بمثابة صمام أمان لدعم وترسيخ قواعد الحكم الديمقراطي، فلابد من الحيلولة دون إقحامه في الصراعات الحزبية والسياسية وصراع المصالح الضيقة.
إذا كانت قيادة عملية التحول نحو الحكم الديمقراطي ينبغي أن تتم من خلال القيادة الرشيدة والمؤسسات الكفوءة لتحقيق الخير العام وبالاعتماد على الذات ، فإن الدور الدولي سواء من خلال الدول المتقدمة أو من خلال المنظمات الدولية هو دور هام في ظل المرحلة الانتقالية الراهنة ، حيث أن الدولة تعاني من حدة الأزمة الاقتصادية بكل أبعادها وتبعاتها  ومن ثم يتحدد دور دولي هام لكل من الدول الكبرى والمنظمات النقدية الدولية يتمثل في ضرورة التخفيف من حدة الأزمة الاقتصادية الطاحنة من خلال ضخ أموال ضخمة  تسهم في تنفيذ بنود الاتفاق وتساعد على إنعاش الاقتصاد وتشجيع الاستثمارات الأجنبية في السودان ، وتشجيع الصادرات وضمان فتح المنافذ لها في الأسواق العالمية ومراجعة أسعار المواد الخام وبصفة عامة اتخاذ السياسات الاقتصادية اللازمة لمساندة تلك الإصلاحات الداخلية بما يساعد على رفع المعاناة عن المواطنين وعبور الفترة الإنتقالقية بسلام نحو الديمقراطية.

[email protected]

تعليق واحد

  1. يقول – الدكتور – مهدى تاج الدين
    فى المقال أعلاه :
    ” يجب على القوى المعنية بالاتفاق ،
    أن تعتبر أن الوضع الجديد الذي أفرزه الاتفاق ،
    لا رجعة فيه ،
    وأنه لا يتعارض مع مصالحها الحيوية ،
    وأن هذا الاتفاق الذي تم عادل ومشرِّف أيضاً ”
    ومن المؤكد أن كل السودانيين معنيون بهذا الإتفاق ،
    وليست الأطراف الموقعه على الإتفاق وحدها ،
    وعلى ذلك فليس هناك إجماعٌ على هذا الإتفاق ،
    وهناك من يرى بأن الإتفاق تضمن تهاوناً من جانب ،
    وإبتزازاً من جانبٍ آخر ، وأنه تمّٓ بين أطرافٍٍ غير
    مؤهلةٍ ، وليس لها تفويض ، أو شرعيه ، أو مصداقيه ،
    وذلك إضافةً إلى المشاكل والتعقيدات التى تحيط
    بإمكانية تنفيذ هذا الإتفاق ، والتى ظهرت بوادرها ،
    ومن المؤكد أن الخلاف بشأن الإتفاق أمرٌ مشروع ،
    وكذلك الدعوة إلى تقويمه ، أو نقضه من أساسه ،
    أما القول بأن الإتفاق : ” عادل ومشرف ” ،
    وبأنه : ” لا رجعة فيه ” ،
    فلا يمكن القطع به ،
    أو الإعتماد عليه .
    12/5/2020

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..