
في الأسابيع والشهور الماضية من هذا العام توالت علينا الأحزان بفقد نفر عزيز من الأهل والاصدقاء والأحباب انتقلوا إلى الدار الآخرة نسأل المولى عز وجل أن يتغمدهم بواسع رحمته. وفي يوم الأربعاء الماضي الموافق 2 ديسمبر فجعنا برحيل الخال الأستاذ/ مالك نقدالله مالك إثر علة لم تمهله طويلا والذي بفقده فقدت البلاد ولا سيما كردفان و بارا وقبيلة الركابية علما من اعلامها ورمزا من رموزها وفارسا من فرسانها. لئن رحل الاستاذ مالك نقدالله فقد ترك اثرا وارثاً طيبا وسيرة عطرة كانت عنواناُ لحياته العامرة بالبذل والعطاء حتى آخر لحظات حياته. كان الفقيد رحمه الله تقيا نقيا ورعا ودودا عطوفا طيب المعشر دمث الأخلاق لين العريكةيشهد له كل من عرفه بنبل السجايا وحب الناس، متواضعا يحترم الكبير ويعطف على الصغير، قويا وثابتا كالجبال الراسيات عند الشدائد فكأنما عناه الشاعر بقوله “هين تستخفه بسمة الطفل قوي يصارع الاجيالا”، سائرا على خطى اباءه الذين غرسوا فيه صفات التقوى والورع والزهد وحب الخير.
كانت حياة المغفور له ذاخرة بالتضحيات من أجل وطنه وشعبه،حيث ولد بمدينة بارا في منتصف اربعينيات القرن الماضي و بدأ حياته العملية معلما بالمدارس الوسطى سابقا وعمل في مناطق مختلفة في السودان وكان له في كل موقع عمل به بصمة منيرة وأثر لاتخطئه العين مخلصا ومحبا لمهنته وراعيا ومرشدا لتلاميذه الذين مازالوا يكنون له الكثير من الحب والتقدير، وقد قابلت في السنوات الماضيةأحد تلاميذه الذين درسوا علي يديه في مدرسة السروراب الوسطى قبل نحو أربعين عاما مضت ومازال يذكره بالكثير من الحب والتقدير ويتمنى أن يلتقيه. كما له صلات وعلاقات وطيدة وحميمة مع الكثير من السياسيين وقادة المجتمع وزعماء القبائل في كردفان الذين يثقون برأيه ويستشيرونه في امورهم ويلجأون له عند الملمات ليجدوا عنده منبع الحكمة والرؤية الثاقبةو فصل القول والرأي السديد “سديد الرأي إن اعطاك رأيا يدلك باجتهاد للصواب”. وقد ساهم بجهده وحكمته وخبرته في حل الكثير من المشاكل وفض المنازعات والإصلاح بين القبائل في كردفان لاسيما في منطقة دار حامد.
خاض غمار الحياة السياسية في سن مبكرة تحت لواء حزب الحركة الوطنية (الحزب الاتحادي الديمقراطي) فكان زعيما فذا و خطيبا مفوها ومتحدثا لبقا ومثقفا واسع الإطلاع وسياسيا بارعا وقائدا يشار له بالبنان وفيا لمبادئة التي آمن بها وظل يدافع عنها طيلة حياته. ورغم المشقة والعنت والضيق الذي واجهه في سبيل التمسك بمبادئة فقد ظل عزيزا وصابرا وثابتا كالطود لم تلن له عزيمةولم يتزحزح عن التزامه بمبادئه في كل أحواله ونال بذلك ثقة قيادة وجماهير الحزب.
دفع به الحزب الاتحادي الديمقراطي مسنودا بارادة الجماهير إلى البرلمان والمجالس التشريعية في دورات عديدةوإلى مناصب حزبية وتنفيذية مختلفة في فترة الديمقراطية الثانية والثالثة وفي حكومة ثورة مايوو الانقاذ فكان دأبه في كل مسيرته عفة ونظافة اليد واللسانوالجنوح للسلم و الوفاق وتوحيد الرأي ولم الشمل ونبذ الخصومة ومخاطبة الناس بلين القول ودعوتهم بالتي هي احسن وكان يؤمن ايمانا راسخا بمبادئ الديمقراطية وحرية الرأي و احترام الرأي الآخر وبفقده ترك فراغا لايسد في المجتمع والحزب لاسيما في هذه اللحظات العصيبة التي يحتاج فيها الوطن لخبرة وتجربة وحنكة وحكمة أمثاله من الرعيل الذهبي.
وكان كذلك متصوفاً وخليفة ومريدا للطريقة الختمية،شأنه شأناباءه، ملتزما باورادها ومداوما على قراءة المولد العثماني ومحبا لشيوخ الطريقة و له اسهامات واضحة في كافة انشطتها الدينية والدعوية.اتصلت به اثناء مرضه بالمستشفى فوجدته رغم الام المرض كما عهدته صابرا محتسبا مطمئنا متماسكا ويتمتع بروح معنوية عالية لم يفزع أو يغتم أو يهزمه المرض.
على مستوىأهلنا الركابيةوالأسرة الممتدة فقد فقدنا ركنا ركينا وأبا عطوفا وأخا ناصحا لكل أفراد الأسرة يجمع شملهم ويؤانس كبيرهم وصغيرهم ويسدي لهم النصح ويحثهم على التكافل والتراحم وصلة الرحم وأعمال الخير ويتفقد احوالهم ويهتم بكل أمورهم، وقد توفي اخيه الأصغر الشيخ نقدالله رحمه الله في ريعان شبابه وخلف اطفالا يفع فشملهم بعطفه ورعايته وكان لهم في مكان الأب حتى اصبحوا بحمد الله رجالا ونساء ومنهم من تزوج وانجب. وكنت كلما ضاقت بي دروب الغربة واستبد بي الضجر والهموم اتصل به تليفونيا واتحدث معه طويلا و لا انهي محادثتي معه إلا وقد حمل عني كثيرا من الهم ومنحني جرعات من الأمل ودروس في الصبر والتوكل على الله اعانتني في مواجهة صعوبات الحياة.
وفي هذا المقام ونيابة عن الأسرة والأهل لايسعني إلا أن اتقدم بجزيل الشكر والعرفان لكل من شارك بالعزاء سواء بالحضور أو عن طريق الهاتف أو وسائل التواصل الاجتماعي وعلى رأسهم رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل ومرشد الطريقة الختمية مولانا السيد/محمد عثمان الميرغني وقيادات الحزب والطريقة الختمية واصدقاء وزملاء المرحوم ونسأل الله تعالي أن يجزيهم خير الجزاءوأن لايريهم مكروه في عزيز لديهم.
نسأل الله عز وجل أن يجرنا في مصيبتنا وأن يخلف لنا خيرا منها وأن يتغمده بواسع رحمته ويتقبله مع الشهداء والصديقين الصالحين وحسن اولئك رفيقا ونحسبه شهيد كما روى الإمام مسلم في صحيحِه عن أبي هريرة، قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: “ما تعدُّونَ الشهيدَ فيكم؟” قالوا: يا رسول الله، مَن قُتِلَ في سبيل الله فهو شهيدٌ. قال: “إنَّ شهداءَ أمتي إذًا لقليلٌ”. قالوا: فمَن هم يا رسول الله؟ قال: “مَنْ قُتِلَ في سبيل الله فهو شهيدٌ، ومَن مات في سبيلِ الله فهو شهيدٌ، ومَن مات في الطاعونِ فهو شهيدٌ، ومَن مات في البطنِ فهو شهيدٌ”.
إنا لله وانا اليه راجعون
ابو القاسم محمد حاج الفكي
[email protected]
اللهم أرحمه وأغفر له وأجعله من أصحاب اليمين وأجعل قبره روضة من رياض الجنة وأدخله فسيح الجنان مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أؤليك رفيقا وإنا لله وإنا إليه راجعون