
قبل انقلاب الإسلاميين المشؤوم، يونيو/حزيران 1989، كان هيكل وزارة المالية السودانية، يتضمن إدارة رئيسية وأساسية، تسمى «ادارة المؤسسات والشركات الحكومية». وحسب مقال منشور في صحيفة «الجريدة» السودانية بتاريخ 28 أغسطس/آب 2020، خطه الخبير الإقتصادي، الدكتور محمد سيد أحمد عبد الهادي، والذي كان قياديا في هذه الإدارة قبل أن تفصله حكومة الإنقلاب فصلا تعسفيا، كانت «ادارة المؤسسات والشركات الحكومية» تمثل وزارة المالية بعضو في مجلس إدارة أي من المؤسسات والشركات الحكومية. وكانت مهمتها الإشراف على كل هذه المؤسسات والشركات مصنفة بقطاعاتها المختلفة، القطاع الزراعي والصناعي والتجاري وقطاع الخدمات والقطاع المختلط، حيث كانت الإدارة تتابع كافة عمليات مؤسسات وشركات هذه القطاعات وتراقب أداءها،
وتناقش الميزانية السنوية لكل مؤسسة، تحصر وتراجع أصولها سنويا، وتحدد ميزانيتها التشغيلية، وتصادق على تمويلها من بنك السودان، تمويلا مستردا، كما تصدق على برامج تطويرها وتوسيعها، ثم تحدد إيراداتها المتوقعة، وتدرجها بالميزانية العامة تحت بند «إيرادات المؤسسات والشركات الحكومية». وتأكيدا لأهميتها، كانت هذه الإدارة تحظى باهتمام ودعم خاص من البنك الدولي، الذي كان يموّل الكثير من البرامج لرفع كفاءتها وكفاءة كوادرها، مخصصا لهم كورسات تدريب في مراكزه بواشنطن، في مجالات إدارة المؤسسات العامة والخصخصة، كما كان يموّل برامج اعادة تأهيل كثير من تلك المؤسسات ويدعمها لتقوية ربحيتها حتى تسهم في زيادة ايرادات الدولة. وإضافة الى أرباحها التي توردها لخزينة الدولة، فإن هذه المؤسسات والشركات العامة كانت تدفع الضرائب المقررة على ارباحها، اضافة الى «ضريبة الأطيان» التي تدفعها المؤسسات الزراعية. وكانت «ادارة المؤسسات والشركات الحكومية» تضم لجانا فنية مكونة من الكوادر الاقتـصادية المؤهلة في مجال الخصخصة، تتولى تصنيف المؤسسات والشركات الحكومية المتعثرة والخسرانة، والمرشحة للخصخصة، وتصمم لها، بمساعدة البنك الدولي، برامج لتأهيلها وتحسين وضعها المالي حتى تكون جاذبة للخصخصة ليتم بيعها بدون خسائر على الدولة. ويكتب الدكتور عبد الهادي متحسرا، هكذا كان الوضع المنضبط للمؤسسات والشركات الحكومية إلى أن حلت الكارثة بعد انقلاب الانقاذ المدمّر، والتي اندفعت بشراهة لتتصرف في مؤسسات وأموال وإيرادات الدولة، كما تشاء، دون حسيب أو رقيب، وكأنها ملك خاص لها.
البداية كانت بضم «شركة الجزيرة» الي جهاز الأمن الذي أنشأته الإنقاذ، وذلك لأن طبيعة نشاط الشركة التجاري الواسع سيوفر سيولة مستمرة، تمكن الجهاز من الصرف على عملياته السرية المختلفة بدون رقيب. وشركة الجزيرة هذه، هي أصلا شركة «جلاتلي هانكي وشركاه» الإنكليزية الضخمة والعريقة التي أسهمت كثيرا في تطوير التجارة والإقتصاد السوداني، وظلت تعمل في السودان منذ اربعينيات القرن الماضي، إلى أن أممها نظام الرئيس المخلوع جعفر النميري، وغير اسمها الى «شركة الجزيرة». ثم قامت الانقاذ بضم شركة «كوبتريد» إلى الشرطة، وهي أصلا شركة وطنية عريقة مملوكة لآل عثمان صالح، أيضا صادرها نظام النميري. والشركة تم ضمها إلى الشرطة لأن أنشطتها ممتدة في كل القطاعات داخليا وخارجيا، وتوفر سيولة مستمرة يمكن أن تتصرف فيها إدارة الشرطة دون أن تدخل خزينة الدولة. تلك كانت البدايات، وبعد ذلك انتشرت هذه الممارسات المخلة، حيث يقال أن الشركات التابعة للمؤسسة العسكرية السودانية تبلغ أكثر من 200 شركة إستثمارية تعمل في مجالات حيوية مربحة لكنها لا تساهم في رفد الخزينة العامة. وكان رئيس الوزراء د. حمدوك قد أشار في أغسطس/آب الماضي إلى أن 80 في المئة من الإيرادات العامة لا تدخل خزينة الدولة ولا تخضع لسيطرة وزارة المالية. وكنا في مقال سابق قد عددنا، بالإستناد إلى مقال الدكتور محمد سيد أحمد عبد الهادي المشار إليه، الأسباب التي تجعل المرء يعترض على أن تكون جل ايرادات الدولة وحصيلة انتاجها خارج خزينة الدولة وخارج الميزانية، وإتفقنا مع د. عبد الهادي، بأن هذا لا يستقيم، لا ماليا ولا اقتصاديا ولا حتى دستورياً. أما الأسباب التي عددناها، فمن بينها:
أولا، في أي دولة، من الصعب عليها حساب دخلها القومي، بدون توفر المعلومات الكافية عن حجم كافة الإيرادات الحقيقية للدولة.
ثانيا، لا يمكننا حساب الناتج القومي الإجمالي إذا كانت عائدات البلاد من المنتجات الزراعية والثروة الحيوانية والثروة المعدنية، غير معروف حجمها ولا عائد الصادر منها.
ثالثا، من الصعب أن نحسب «ميزان المدفوعات» اذا كانت عائدات الصادر للانتاج لا تورد إلى البنك
المركزي، وبالتالي تظل خارجه وخارج الميزانىة، وربما خارج البلاد!. وبالطبع، لا يمكننا توفير العملات الصعبة لإستيراد السلع الأساسية، كالدواء والبترول والقمح…..الخ، كما لا يمكننا إستيراد مدخلات الانتاج، المحرك الاساسي للانتاج المحلي.
رابعا، من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، إعداد «ميزانية النقد الاجنبي» وهي احد ركائز الميزانية العامة لأي دولة في العالم، اذا كان عائد صادرات الدولة بالنقد الاجنبي جله غير مضمن في حساب الحكومة بالبنك المركزي.!
وفي مكتوبه المذكور، أشار د. عبد الهادي إلى أمر هام، قد يكون غائبا عن البعض، وهو أن المؤشرات الأربعة المذكورة أعلاه، هي في حد ذاتها معايير ومقاييس اقتصادية ومالية هامة لابد ان تكون متوفرة، وبدقة، لدى وزارة المالية لأي دولة في العالم، لأنها معـايير أساسية لـقياس المستوى الاقتصادي والأداء المالي للدولة، ويتعامل بها ويستخدمها كل العـالم بمؤسساته المالية وصناديق التمويل الدولية، مثلما نستخدم وحدات القياس، المتر المربع مثلا لقياس المساحة أو الغرام لقياس الوزن، فإذا هي غير متوفرة، أو أنك لا تستخدمها فلن يفهمك أحد!.
لا شك إن وجود موارد وإيرادات الدولة خارج سيطرة الجهة المحددة المسؤولة من الولاية على المال العام، ومن ضبط ميزانية البلد وموازنتها، وبالنسبة للسودان هذه الجهة هي وزارة المالية، هي إشكالية حقيقية تستوجب منا جميعا التصدي لها، كما سنحاول في مكتوبنا القادم، بحثا عن المخرج السليم.
القدس العربي



*شيوعيون إهتدوا*
ليس للهداية المقصودة علاقة بالعقيدة أو الدين كما يتبادر للذهن، لكن أقرب في المعنى لقوله تعالى (ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله) وهنا المقصود الحكم والطريقة. أتحدث عن ظاهرة كفر الشيوعيين بالماركسية. ظاهرة الإنشقاق وتغير الفكر في الحزب الشيوعي السوداني، ليست بجديدة. فقد بدأ بعيد تأسيس الحزب في العام 1946م.
*الهجرة إلى الغرب*
شهدت فترة حكم الإنقاذ، ونتيجة لما عاناه الحزب من بطش وتنكيل، هجرة عدد كبير من كوادر الحزب وقياداته إلى الغرب. مثّلت هذه الهجرة تحدياً كبيراً للحزب، فحزب الطبقة العاملة لم يجد في جنان البروتاريا ملجأً وسكناً. فلم نسمع بمن يمَمَ شطر كوبا، أو الصين، بل قصد جُلهم جحيم الإمبريالية وجور الراسمالية.
الهجرة إلى الغرب أحرجت كل الأحزاب الشيوعية في العالم الثالث. فكيف تُبشر بحتمية إنهيار الرأسمالية، وأنت تعيش في كنفها؟ وكيف تنسب كل شرور العالم إليها ولم تجد ملجأً إلا إليها؟.
النُخب االشيوعية، وقد عايشت الغرب، لم تجد الإمبريالية بذلك الظلم البائن والوجه الكالح، كما تصفها الأدبيات الماركسية. بل وجدت مجتمعاً فيه قدراً من الرفاهية والعدالة الإجتماعية. بل و فوق ذلك وجدت فيه الحرية التي افتقدوها في أوطانهم، ولم يجدوها في الماركسية.
شكّلت هذه التجارب، وإنهيار المعسكر الإشتراكي. وغيرها صدمةً لهولاء الكوادر، هذه الصدمة دفعت الكثير منهم لمراجعات فكرية عميقة، قادتهم لاحقاً لتبني فكر ليبرالي فيه روح يسارية. فكرٌ أقرب لأحزاب يسار – الوسط في أوربا. تأثراً بالغرب، تبنت هذا المجموعة نهجاً براغماتياً بعيداً عن الأيدلوجيا. ولم يمنعهم سابق الإنتماء، من الإنخراط في مؤسسات الغرب المالية مثل البنك الدولي وغيره من المؤسسات، بل وصل الأمر إلى تأسيس وريادة الأعمال.
عبدالله حمدوك، الشيخ خضر ، الشفيع خضر،حاتم القطان، صلاح عوض عمر وغيرهم نماذج لهذه التجربة. هذه المجموعة لها الصوت الأعلى والتأثير الكبير في حكومة الفترة الإنتقالية، ليس بالكثرة، ولكن بقوة الطرح والتنظيم ، تجلّى ذلك في توصيات المؤتمر الإقتصادي الأخير.
الحزب العتيق يرفض التغيير لذا لن تتوقف أفواج (المهتدين)،ولن يحتاج التغيير للتوجه غرباً هذه المرة فقد وجد موطئ القدم و(الطليعة) .