ما تيسر …
اولويات الحكومة العشر لماذا لم تأتي أكلها خلال عامين ؟
لقد ترددت كثيرا حول الذي يمكن ان يكتب في الذكري الثانية لثورة ديسمبر العظيمة ! الثورة التي دائما ما تستعصي اللغة أن تعطيها ما تستحقه من الكتابة .لاسيما وهذا اول مقال اسبوعي لي ، سيكون راتبا كل يوم سبت إن شاء الله في جريدة ( الحداثة).
وهي ليست مجرد صحيفة يومية كما هي الآن ، ولا مجلة دورية كما كانت وستظل ، ولكنها هي منصة فكرية سامقة ،سرعان ما اصبحت منبرا ومدرسة ، لها مريدوها، وتلاميذها، وحواريها من الشباب من الجنسين، وغيرهم من المثقفين والقراء المستنيرين ،فقد إنعكس اثرها بشكل لافت في مستوي الوعي الذي إنتظم الحراك الثوري خلال 8 اشهر التي سبقت إسقاط النظام .
نعود للسؤال جوهر هذا المقال : لماذا فشلت الحكومة في تنفيذ اولوياتها العشر ؟
قبل الخوض في سلم هذه الاولويات المختل بل والمعكوس ! دعونا نتامل القاطرة اي “الحكومة ” التي من المفترض فيها ان تحمل علي ظهرها هذه الاولويات العشر وتمضي بها قدما في ظل الدولة العميقة المتمترسة في كل ركن من اركان الوطن ، والقابضة بكل نواجذها علي مفاصل الدولة ! فضلا عن” مجابدة” الدولة الموازية ومحاولاتها الحثيثة للتمدد ،في صراع محموم مع الدولة العميقة، بينما وجدت الحكومة “المسكينة ” رمز الثورة نفسها بين سندان الاولي ومطرقة الثانية !
بما ان طبيعة الحكومة منذ البداية لم تكن طبيعة ثورية ، نتيجة للقرار “العوار ” الذي كانت قد إتخذته حاضنتها السياسية المتمثلة في “قحت ” بإستبعاد الثوار من المشاركة فيها ! لقد كان قرارا غرائبيا ! وإستبدلته بحكومة من technocrats اتضح لاحقا ان اغلب اعضاء فريقها رغم تاهليهم الاكاديمي الرفيع وخبراتهم الطويلة ومعارفهم العامة ، إلا انهم لم يكونوا هم السياسيين المناسبين لإدارة البلاد في اعقاب سقوط النظام بعد دمار وخراب ثلاثة عقود حسوما .ما كانت لديهم الخبرة ولا المعرفة الكافية، بالواقع السوداني المعقد، والمشوه ، والمشحون بالازمات ! هكذا عجزت هذه الحكومة في مواجهة الدولتين العميقة، والموازية معا بما يستحقانه من الشراسة و ” الشفتنة ” والقوة التي تحتاجها مثل هذه المواجهة .
كما نلاحظ ان هذه الحكومة وضعت هذه الاولويات العشر دون ان تربطها برؤيا ،وبرنامج عمل ، وخطط مفصلة، وآليات ، وجدول زمني موثوقا بمايسمي Milestones لكل وزارة علي حدة، حتي يسهل محاسبة كل وزير في مدي زمني لا يتجاوز 6 اشهر .
ثم تاتي القضية ” ام الكبائر ” اي الخطأ الإستراتيجي الذي كان سببا مباشرا في إعاقة الحكومة عن تنفيذ اولوياتها العشر ، الا وهو تعدد هذه الاولويات، وتنوعها، وتقاطعها بعضها بعضا ،مما جعل تنفيذها غير ممكن إطلاقا .
في تسلسل هذه الأولويات العشر ،تاتي الاولوية رقم (5 )التي تقول
” إصلاح جهاز الدولة ” هنا مربض الفرس وهذه كان ينبغي ان تكون الاولوية رقم (1 )بل هي”ام الاولويات ” وكان ينبغي ان تكون كما يلي ” تفكيك واعادة بناء جهاز الدولة ما بعد الثورة ” لان الجهاز الحالي هو جهاز دولة الحركة الإسلامية اي دولة الحزب ، فلا يمكن إصلاحة, ما لم يفكك تماما ,ويعاد بناء هيكل جهاز الدولة الوطنية علي انقاضه .عندما يعاد بناء جهاز الدولة ما بعد الثورة ، هكذا يصبح تحقيق الاولويات العشر امرا ميسورا ، لانها كلها مربوطة بجهاز دولة الانقاذ ربط ” الاواني المستطرقة ” الذي إستطاع ان يشل حركة حكومة الثورة وجعلها تراوح مكانها ! لو طالع القاىء قائمة الاولويات العشر: مثل العدالة الانتقالية، ومعالجة الازمة الاقتصادية، ووضع سياسة خارجية مستقلة، الي آخر الاولويات العشر . لاريب سيلاحظ ان العقبة الكؤود كانت جهاز الدولة الحالي . لو كانت هذه الحكومة إكتفت فقط بأولوية بناء جهاز الدولة بناء ثوريا، لما إحتاجت الي مثل كل هذه الاولويات العشر !
بعد مضي عامين من عمر الثورة نقول بإيجاز يجب ان تكون الحكومة الجديدة حكومة ثورية، ولديها رؤية، وبرنامج عمل مفصل، وعلي راس اولياتها ياتي بناء جهاز الدولة الوطني علي انقاض جهاز دولة الحزب .
في الختام : نقول للذين ينادون بإسقاط هذه الحكومة رغم تحفظنا علي أداءها ،إلا انها تظل رمز المدنية ، فإن سقطت، ستفتح شهية المتربصين بالثورة ، واصحاب الشبق للسلطة في الداخل والخارج ، وحينها تكونون قد قدمتم لهم مجانا السلطة علي” طبق التفويض” الذي يحلمون به ولكن هيهات هيهات !