مقالات وآراء سياسية

السودان عامان على ثورة ديسمبر

اكرم ابراهيم البكري

الذاكرة المؤقتة للسودانيين ما زالت تغفر للحكام المستبدين تاريخاً طويلاً من الجرائم بحقها في لحظة عاطفية مشاعرية نفس تلك الذاكرة للبعض كانت قبل الثورة، تغفر للمشير الراقص كل موبقاته بمجرد رؤيته يقوم بعمل هامشي تظهره أجهزته الإعلامية كافتتاح طريق مسفلت او قص شريط لمستشفى خاص او فتح مصنع لاحد رجال الجشع الرأسمالي والان نشاهد نفس التعاطف مع المنظومة البائدة امام محكات توطين التجربة المدنية.

وفى اعتقادي ان حالة الضنك والبؤس التي عانى منها السودانيين فترة ال 30 سنة الماضية أبان حكم المنظومة البائدة والتي عملت على تسمم المناخ العام للوطن وغرست القمع والقهر السياسي والاقتصادي والفكري فى السودانيين هذا بالإضافة الى تلك الهجمة الشرسة المضادة المتمثلة فى مصطلح (الثورة المضادة) ورفع سقف التمنيات والتوقعات فى الاصلاح كل تلك العوامل وغيرها نجدها قد كرست في وعي المواطنين فكرة اليأس من الثورة أو فقدان الثقة في قدرتها على اكمال دورة التغيير ، وهذا ما وضع كثير من العراقيل لأقناع الجماهير بان املاً كبيرا مازال معقود على الحراك الجماهيري وان الثورات تمر بأطوار حتمية من المد والجزر إلى أن تحقق مكتسباتها وشعاراتها التى رفعت.
نعم قلة نخبوية فى المجتمع هي القادرة على تصور تجليات الأحداث قبل وقوعها وتلك القلة من المفترض ان تعي دورها المنوط بها بضرورة استمرار عجلة الثورة والحراك الجماهيري الذي قد يتخذ اشكال عدة فى الاحتجاج الا ان القوي الثورية الصاعدة التى تضمن استمرارية الحراك الجماهيري لابد ان تكون يقظة و عليها ان تدرك ان أزله عوامل الياس والاحباط فى التغيير بالضرورة تكون من خلال خلق وابتكار نمازج جديدة لاستمرارية الثورة كخيار حتى تستطيع ان تجاوب على اسئلة ملحة فى تقديري مثل أسئلة ما بعد الثورة وكيفية ابتكار ادوات للإنتاج وتنمية انسان السودان.

و السؤال الذي يفرض نفسه الان وبعد مرور عامان على ثورة ديسمبر المجيدة هو …البحث عن كيفية هدم الهيكل النظري لاستبداد المنظومة البائدة في الوعي الجمعي السوداني ، نعم نجت ثورة ديسمبر المجيدة فى هدم الهيكل المادي للنظام البائد ولكنها وقفت عاجزة امام الهيكل النظري ، فالحقيقة التى يجب ان ندركها جميعا أن التخلص من الأنظمة المستبدة ليس بأصعب من التخلص مما تركته هذه الأنظمة من عاهات فكرية ونفسية وسلوكية في المجتمع تصاحبه لفترة طويلة ، وتركة الانقاذ من تلك العاهات ,وواله انها لتركة ثقيلة تنوء عن حملها الجبال وفى الغالب الاعم لا يبرأ منها السودان إلا بعد تعاقب عدة أجيال تولد في مناخات لم يلوثها الاستبداد بهذه الأمراض.

ولنتمهل قليلاً وندرك ان هذه العاهات الفكرية التى تتواجد الان هي ذاتها من جنود المستبد التي كان يقوي بها أركانه حين كان يمسك بمقاليد الحكم، وهي من تركاته التي يعيق بها مرحلة البناء والإصلاح حين يطاح به (اللجنة الأمنية) لقد ضربت الأمراض، التي أفشاها المستبد اعماق المجتمع ووعيه ووجدانه وانعكست واقعاً سلبياً في سلوكه وبالنظر للسياق القادم مع الوضع في الاعتبار ما هو واقع علينا الان تتميز امراض المجتمعات التى خرجت من الاستبداد والقهر والهدر الانساني بأصناف شتى ولكن أكثر اعراض تلك الامراض تكون فى شكل (تقديس الفرد/ استحضار الاخر في الخطاب السياسي / الجمود والدائرية / الاحتفاء بالقشور والظهريات وإهدار الجوهر/ الاهتمام بالطقوس وترك الاصل / والخوف من التغيير/ وقمع الأفكار الجديدة الداعمة للإنتاج / والسخرية من المختلف/ وعدم الاعتراف بالخطأ والانشغال بتبريره بدلا من المسارعة إلى معالجة آثاره/ والتضخم في الذات/ فهم نصوص دينية وفقاً للسياق الذي وضعته مؤسسة المستبد الدينية/ وتجسُّد الطابع الفردي في كل ملامح / الانانية وحب الذات / البحث عن المكاسب المادية دون انتاج).

ولك ان تقارن بين ما كتب أعلاه وبما هو واقع على الوطن الان. فهذه الأمراض التي زرعها نظام الانقاذ طوال فترة حكمة للسودان ومن خلال منظومته الأمنية والثقافية والإعلامية والإدارية، تجعل أول عدو للمجتمع في مرحلة البناء والتغيير (الفترة الانتقالية) هو المجتمع نفسه، بما فيه من شرائح عليلة تقاوم التغيير ليس لأنها لا تحب الأفضل، ولكن لأنها ضحية مستبد أفسد عقلها وأخرجها عن وظيفتها وجعلها عدوة لنفسها. ولذلك فإن أفضل الثورات هي التي تسير في خطين متوازيين متزامنين هما: –

خط الهدم وخط البناء
بمعنى ان يكون هنالك معول يهدم أركان الاستبداد المادية والفكرية، ويد تزرع في هذا الفراغ قيم الإصلاح والبناء والتغيير والنهضة، فهي عملية متزامنة تختصر الوقت والجهد وليست عملية تعاقبية تستنزف الوقت وتفنى أجيال قبل أن تقطف ثمارها،وعلينا ان ندرك ان خط هدم المنظومة السابقة كخيار اوحد لا يحقق مكتسبات الثورة ان لم يكن هنالك خط بناء واصلاح حقيقي من الثوار أنفسهم وان أخطر أمراض التى رسختها الانقاذ فينا هو مرض تقديس الأفراد والدوران في فلكه (حمدوك ما عمل شيء / شكر حمدوك) وتقديس الافراد يولد الشعور بالضياع والتيه فمن دون وجود الفرد الآمر الناهي الذي يملي علينا ما عليه أن يفعل وألا يفعل، ويحدد له مهامه وحقوقه وواجباته استمرار الثورة والحراك الثوري يكون بغرس “الشعور بالمسؤولية وثقافة المبادرة الذاتية” فهذه تعتبر أولوية قصوى في مرحلة ما بعد الثورة من أجل التخلص من برمجة العبودية في النفس. ولأن المستبد يجعل الناس حين ينالون قدراً من حقوقهم الأصيلة ينظرون إلى ذلك وكأنه منة وكرم زائد تفضل به المستبد عليهم، وعلى الاحزاب السياسية بدل الصراع حول مقاعد السلطة الانتقالية ان تقوم بتبصير المجتمع بحقوقه وواجباته حيث تساعد المجتمع فى النمو على أساس من التكامل الإنساني الذي يحتكم إلى منظومة الحقوق الواجبات التي يقننها النظام للفرد وليس التي يجود بها الحاكم من عنده لمن شاء.

وقد شاهدنا كيف ربط النظام البائد كل شؤون الوطن به غير مبال بمصير الوطن في حال غيابه، لذلك يكون تكريس العمل المؤسسي في كل جوانب الحياة بما يحقق استدامة التنمية للوطن وللشعب بغض النظر عمن يحكم، وتصبح وظيفة الحاكم لا تزيد عن كونها وظيفة إجرائية تنسق بين كافة مؤسسات الدولة بعيداً عن الارتجالية الفردية التي تبدد مصير شعب بأكمله في نزوة عابرة تمر بخاطر المستبد أو أضغاث أحلام يراها في منامه.

اكرم ابراهيم البكري
[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..