مقالات وآراء

ثورة ديسمبر و محو الفراغ الظافر للنخب السودانية.

طاهر عمر

سوف تكون ثورة ديسمبر مقياس لما قبلها و ما بعدها فما قبلها يعني تفاعل موضعي و حيث يكون التفاعل الموضعي انقطعت التجربة لتعلن فشلها لأن النخب التي تراقب التجربة نتاج مجتمع تقليدي للغاية و نلاحظ عطب بوصلتها حيث سيطرت فكرة أن الوطن مسألة دينية و انعكس ذلك على ظهور أحزاب وحل الفكر الديني من كل شاكلة و لون أي حركة اسلامية سودانية و أحزاب طائفية و حيث ازدهرت فكرة المرشد و الامام و مولانا و الاستاذ يعني أن المجتمع يرزح تحت أحمال المجتمعات التقليدية.
بجانب أحزاب وحل الفكر الديني نجد الحزب الشيوعي بنسخته السودانية لا يقل دوره في عرقلة التحول الديمقراطي للمجتمع عن أحزاب وحل الفكر الديني لأنه بنسخته السودانية كدين بشري أفشل من أحزاب وحل الفكر الديني والغريب يعتقدون بأنهم سوف يرثون مكان أحزاب وحل الفكر الديني علما بأن الشيوعية كدين بشري أفشل من الأديان في زعمها لدور الجالب لسلام العالم و من هنا تتضح لنا صعوبة التحول الديمقراطي في السودان.
فمسألة التحول الديمقراطي تعني في المقام الأول الاعتناء بفكرة العيش المشترك و في سبيلها استطاعت المجتمعات المتقدمة أن تتجاوز مسألة الدين و قد أصبحت السلطة مستمدة من المجتمع و ليست من الدين و بالتالي فان سيطرة أحزاب وحل الفكر الديني في السودان بجانب نسخة الشيوعية السودانية هو انتصار الفراغ الظافر  كما يقول عمانويل تود في وصفه للنخب الفرنسية و كسادها الفكري و بسببه قد انتخب ماكرون كعقاب لنخب اليمين و اليسار في فرنسا لأنها قد غفلت لبرهة عما طراء من تحول للمفاهيم في فرنسا.
انتصار الفراغ الظافر يحجب النخب السودانية من أن تفهم بأن من يقوم بالتغيير هو الشعب و ليس النخب و لا القادة و اللا المفكريين و دليلنا على ذلك بأن ثورة ديسمبر نتاج التغيير الذي قاده الشعب في زمن سقوط نخبه في حوارها مع الانقاذ و مسألة الهبوط الناعم و نفسه انتصار الفراغ الظافر يجعل من النخب لا تهتم بغير مسألة المحاصصة و بعدها يظنون بأنهم سوف يسيرون بالمجتمع كما السائر في نومه و هيهات.
كما فاجأت ثورة ديسمبر النخب السودانية سوف تتفاجى النخب السودانية من جديد بأن ثورة ديسمبر هي اعلان موت العالم القديم أي عالم النخب السودانية الفاشلة و انتظار لميلاد عالم جديد لم يولد بعد كما قال غرامشي ذات يوم. و لكن أي لحظة ميلاد ثانية تنتظر المجتمع السوداني؟ و الاجابة بأنه ميلاد مجتمع نتاج انثروبولوجيا الليبرالية بشقيها السياسي و الاقتصادي حيث يكون زمن الفرد و العقل و الحرية في علاقة متينة مع شجرة نسب الديمقراطية الليبرالية في ظل فلسفة تاريخ حديثة أول ما ترفضه هو فكر الهيغلية و الماركسية كفكر غائي لاهوتي ديني يعتبر آخر بقايا أشعة فلسفة التاريخ التقليدية و كذلك آخر بقايا تأثير الدين على المجتمع و نجده كما يقول مارسيل غوشيه بأن آخر بقايا تأثير الدين على المجتمع كان قد تمظهر في الحرب العالمية الأولى و الحرب العالمية الثانية و الشيوعية.
فثورة ديسمبر هي قطيعة مع تراث مجتمعنا التقليدي القريب منه قبل البعيد و أول قطيعة ينبغي أن تكون مع أحزاب وحل الفكر الديني و النسخة المتخشبة من الشيوعية السودانية فلا يمكننا أن ندخل الى عتبة المجتمعات الحديثة و نحن نرزح تحت نير أحزاب وحل الفكر الديني مستمعين لنشيد المثقف المنخدع بماركسية ماركس.
لا توجد حداثة اذا ظل الدين يلعب دور بنيوي على صعد السياسة و الاجتماع و الاقتصاد و لا يعني ذلك بأننا ندعو للإلحاد و لكن لأننا في زمن قد أصبح فيه الدين يبداء بعد حدود العقل محترم لسلطان العلم أنه زمن الحداثة التي قد قضت على جلالة السلطة و قداسة المقدس. زمن تحول المفاهيم و فيه قد أصبحت مسألة حقوق الانسان هي التي قد حلت مكان فكرة التوحيد في الأديان فاذا كانت فكرة التوحيد الشاغل لتجربة الفكر الديني فزمننا تشغله فكرة حقوق الانسان و بالتالي قد أزاحت فكرة التوحيد و قد أصبحت فكرة حقوق الانسان و قيم الجمهورية ما يناسب روح عصرنا الحديث.
عصر الوعي بفكرة العيش المشترك و في سبيلها يصبح لكل فرد مستوين من الاجتماع حيث يصبح هناك اجتماع بين الفرد و ربه بلا وساطة من تجار الدين و وعاظ السلاطين و مجتمع يصطرع فيه الفرد مع مجتمعه و هنا تظهر أهمية العقلانية أي مجتمع عقلاني معتمد على عقل الانسان و قدرته المتجسدة في مجد العقلانية و مسارها لتحقيق عوالمه التي تنشد الحرية و العدالة و هنا تلتقي ثورة ديسمبر مع سير المجتمعات الحديثة و كان شعار الشعب حرية سلام و العدالة متطابق مع معادلة الحرية و العدالة روح الفكر الليبرالي الذي لا يتحقق بغير الليبرالية السياسية.
ما يهمنا في السودان كيف نخرج من متاهة الفراغ الظافر للنخب السودانية الفاشلة؟ و الاجابة نجدها في تاريخ الشعوب الأخرى مثلا في خمسينيات و ستينيات القرن الماضي كانت الماركسية مسيطرة على مشهد المعرفة في فرنسا و قد انعكست على الفكر الفلسفي و علم الاجتماع و الاقتصاد و لكن ماذا حصل؟ كان جان بول سارتر لا يشق له غبار بل يزعم بأن كل من لم يقف مع الشيوعية فهو كلب و لكن من تصدى له و غيّر مسار الفكر في فرنسا و أثبت لسارتر انه يدافع عن أبشع أنواع النظم الشمولية أي الشيوعية؟
هل لعبت المجاملات و الاخوانيات و الشلليات أي دور مثلا في مهادنة سارتر كما نرى المجاملات و الاخوانيات و الشلليات التي تجمع في السودان بين طرفي النقيض كصحبة بعض اليساريين السودانيين للكيزان؟ بل هناك من اليساريين السودانيين قد كرمتهم نخب الكيزان و بعض النخب التي كرمتهم الآن طرد من طرد منهم من قبل لجنة التمكين لأنهم قد شغلوا وظائف بغير حق و منهم من استلم مال لشراء الذمم و منهم من كرمهم حكام أقاليم الآن قابعين في السجن في انتظار محاكمتهم في جرائم حرب.
نعم تصدى لسارتر صديقه ريموند أرون و لم تمنعه الصداقة من أن ينتصر للفكر و تصدى له صديقه ألبير كامي و لم يمنعه مساعدة سارتر له و ادخاله في المجتمع الباريسي أن ينتصر للفكر و تصدى له كلود ليفي اشتروس بل اتهمه بأنه يجهل علم الاجتماع و هنا ينام سر انبهاره بالماركسية. و هنا عندنا نجد من يمتدح من كان حريص على لقب مفكر اسلامي حتى آخر ايامه و هو الطيب زين العابدين رحمه الله من نخب كان لآخر لحظة في حياته يحاول أن يعطل بهم مسار ثورة ديسمبر و محاولة احياء لجنة كونها من نخب اليسار السوداني الرث يريد أن تحاور الانقاذ و كان من ضمنها الكوز الجزولي دفع الله في آخر محاولة له يخدم بها الحركة الاسلامية السودانية.
و أثبتت الأيام أن التغيير تقوم به الشعوب و ليس النخب و لا المفكريين و لا القادة فنحن في زمن تقدم الشعب و سقوط النخب و خاصة أبناء نسق الطاعة حيث لم تكن الحرية يوم مطلب جماهيري في أفقهم أبناء سلطة الأب و ميراث التسلط لذلك تجدهم قد استبدلوا سلطة الأب بسلطة حزب سلطوي لا يفتح الا على نظام شمولي بغيض انتبهت له الشعوب الحية كما رأينا تجربة فرنسا في ازاحة سيطرة الماركسية على مشهد الفكر و الآن قد انتصر فكر ريموند أرون على سارتر كما انتصر توكفيل على ماركس و كذلك كما انتصر كانط بالكانطية الجديدة على كل من الهيغلية و الماركسية. الذي نطمئن له بأن التغيير تقوم به الشعوب و لا يهمنا نوم النخب في الفراغ الظافر و مجاملاتهم و شللياتهم و اخوانياتهم التي تمنعهم من ابداء أي حراك نقدي يبشر بعودة الوعي و خاصة قد رأينا أن البشارة كانت في ثورة ديسمبر حيث ظهرت المشاعر الأخلاقية في شعار عطبرة العبقري الذي يدل بأن الشعب قد فارق بلادة حس النخب القابعة في فراغها الظافر.
و أخيرا نقول للشعب السوداني بأن الشرط الانساني اليوم لا يعني غير السياسة و لكن أي سياسة؟ تلك التي تهيمن على التشريع و الاقتصاد قاعدتها حقوق الانسان لكي تكون نقطة البداية و نقطة الوصول و الثورة الفرنسية قد لحقتها تشريعات قد غيرت ما قبلها أي انها قطيعة مع تشريعات الماضي. ثورة ديسمبر لا تقل عظمة عن الثورة الفرنسية فيجب أن تعقبها تشريعات ترسم قطيعة واضحة مع تشريعات نخب الفراغ الظافر.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..