
مصطلح بربري barbarian في الترجمات المأخوذة من اليونانية يوصف به الشخص غير المتحضر وكلمة “بارباروفونوي” المذكورة في الإلياذة (ملحمة شعرية تحكي قصة حرب طروادة للشاعر هوميروس) تعني الذين يتكلمون اليونانية بشكل سيئ أي الأجانب وهو مصطلح في الأصل أخذه الاغريق من لغة حضارة وادي النيل ويعني ذات المعني في العامية السودانية (ناس برا) وقاموس أوكسفورد الإنجليزي يحدد خمسة الفاظ لكملة بربري بما فيها الكلمة الأقدم (Barbary) والحقيقة ان حضارة وادي النيل وحضارة الفرس والفينيقيين كانت هي المتحضرة امام البرابرة الرومان الذين لا يصح منهجياً ان يطلق على تاريخهم “الحضارة الرومانية” بل الإمبراطورية الرومانية.
من أولئك البرابرة المفاخرين بتاريخ روما “راؤول ماكلوكلين” المحاضر في جامعة كوينز الأيرلندية ذو الأصول المجرية التي تعتبر انها أصل الرومان، لذا هو النسخة الحديثة من عنصرية المؤرخين “هيرودوت” و”استرابو” يقول راؤول في إحدى مقالاته التي لا تستحق ان توصف بـ “العلمية” متحدثاً عن مملكة مروي والكنداكة امانيرينا (اماني ريناس) التي سحقت جيوش روما وأسرت الآلاف في حرب عام 21 ق.م واستعادة من قبضتهم مدينة “سيني” التي ذكرها الرومان باسم “سيرين” (مدينة اسوان جنوب مصر) والتي كانت أحد أهم المدن التجارية للكوشيين، تلك الحرب اجتهد الكثير من كتاب التاريخ الروماني على حذفها من الكتب كونها مذلة للتاريخ الأوربي!!
يقول راؤول : (كان أثرياء الرومان يرتدون ملابس من الحرير الصيني ويشترون واردات أفريقيا التي كان من بينها العاج والأبنوس باهظا الثَّمن وجلود النمور إضافةً إلى العبيد والبخور الصومالي المجلوب من مملكة مروي) يحاول اظهار الرومان كأثرياء متحضرين وبالمقاول يظهر الكوشيين بشكل معاكس وغير مباشر فيقول: (كان الكوشيون من أطول الشعوب قامةً في العالم القديم وكان محاربوهم يُشتَهرون بقوَّتهم، وورد ذكرهم في قصص الإغريق بأنهم يمتلكون أجساداً بقَوام ممشوق مميَّز وبنية رياضية وبشرة داكنة للغاية وكانوا يختارون الأقوى بين المتبارين ليكون ملكاً لهم) اختيار الأقوى ليكون ملكهم كذبة تخالف حقائق وراثة العرش في التاريخ المروي الذي شاع فيه تولي ملكات للحكم (الكنداكات) في واحدة من أقوى وأغني الممالك في زمانها، ثم يكمل بذات النهج الكاذب: (ووَفْقًا لبعض الروايات الكلاسيكية، فإن كثيراً من هؤلاء المحاربين كانوا يرتدون ملابس مصنوعة من جلود النمور والأسود) ثم يركن لما قاله “هيرودوت” المؤرخ اليوناني الذي يؤكد النقاد ودارسي الآثار والباحثين اعتماده على مصادر غير موثوق بل وحتى الخرافات من أجل تعظيم التاريخ اليوناني ومنها ما ينقله راؤول عنه بالقول في وصف المرويين: (دهَنُوا النصف الأول من أجسادهم بالجبس والنصف الآخر بالزُّنْجُفْر) وهو وصف ينطبق على بلاد إنجل (البريطانيين) في تلك الفترة عند عزو جنود روما لأراضيهم!! ثم يكمل هيرودوت بالقول: (كانت عادة أغلبهم وضع حلقة برونزية في الشفاه) وتلك عادة لا يوجد لها أصل عند الكوشيين وقد اشتهرت بها نساء قبيلة “سور مي” في إثيوبيا والمعروفة بـ”صحن الشفاه” وغرض راؤول هنا تشكيل صورة ذهنية للقارئ عن المرويين كقبيلة افريقية بدائية!! يكمل هيرودوت بالقول: (إن الأفارقة استرقُّوا السكان ودمَّروا تماثيل القيصر أغسطس قبل العودة جنوباً ومعهم السجناء الرومان وآلاف من الأسرى المصريين) والحقيقة أن الكنداكة أسرت الآلاف من الجنود “الرومان” وليس الكيميتيين (المصريين) ثم يكمل هيرودوت واصفاً شخصية الكنداكة اماني ريناس:(كانت ذكورية الشخصية، عوراء العين) وهو وصف بكل أسف لاقي رواجاً رغم عدم صحته وأحد الادلة نجده على قصاصة ورق كتبها القيصر أغسطس يصف فيها الكنداكة بعد ان حلت عليه ضيفة في جزيرة “ساموس” كتب يصفها:( جميلة ومحنكة وسياسية) يكتفي راؤول بما قاله هيرودوت ويكمل بدوره الكذب على طريقته ويقول: (وعند اقتراب الجيش الروماني من نبتة، أرسلت أماني ريناس الرُّسل طالبين وضْعَ نهاية للأعمال العدائية، إضافةً إلى عرْضٍ بإعادة الأسرى والآثار المأخوذة من سيرين) والحقيقة انه بعد استرجاع الكنداكة لمدينتها المحتلة لم تقدم عرضا للسلام ولا للاستلام وهي كانت الطرف الأقوى في الصراع، يكمل راؤول بقوله:( وكان الصيف الأفريقي على الأبواب، ولم يكن بترونيوس يعلم أي نوع من الأرض ينتظرهم ولذلك رأى أنه قد أنزل بهم ما يكفي من القصاص وعاد إلى مصر) القائد بترونيوس الذي قاد الحملة الفاشلة لاحتلال مروي وتحرير الأسري الرومان لم يعد الى مصر بسبب الصيف ولا بجهله بمروي بل فرا عائداً بعد سحق الفيالق التي أتى بها الى أرض كوش.
ثم ينقل راؤول عن المؤرخ استرابو الذي تمادي في الكذب في هذه النقطة بقوله: (بعد أن أحرقوا نبتة بالكامل واسترقُّوا سكانها، عاد بترونيوس محمَّلًا بالغنائم وأقرَّ أن المناطق الموجودة فيما وراء تلك المدينة من الصعب اجتيازها وكان من بين تلك الغنائم ألف سجين أفريقي، وعندما عاد إلى الإسكندرية أرسل التقارير وغنائم الحرب إلى روما) والحقيقة ان فشل قائد الحملة بترونيوس جعل من جيش الكوشيين مهدداً حقيقاً للوجود الروماني في كيميت ناهيك على ان يكون له أسري من الكوشيين، يكمل راؤول بالقول: (لكن بعد عامين أي في عام ٢٢ قبل الميلاد، قادت أماني ريناس جيشاً كبيراً شمالاً إلى الشلال الثاني، ورغم ذلك لم تهاجم الحصن الموجود في بريمنيس، وهذا الأمر منح بترونيوس وقتًا للوصول بآلات الحرب والتعزيزات، وعندما علمت أماني ريناس بوجود قائد روماني رفيع المستوى، أرسلت مبعوثين لإعادة فتح باب المفاوضات) هي محاولة فاشلة لتبرير الهزيمة فالعتاد الحربي المتطور للرومان بمقاييس ذاك الزمان مع ظهور المنجنيق ودخول الحديد في تصنيع السلاح بدلاً عن البرونز لم ينقذ بترونيوس من مرارة الهزيمة! يواصل راؤول بذات النهج المزيف للحقائق قائلا: (طالبت أماني ريناس بتسوية سلمية دائمة، وطلبت المزيد من المعلومات عن روما وأوضح بترونيوس، ربما من منطلق إدراكه للمصير الذي لاقاه جالوس (الحاكم الروماني في مصر) أنه على مبعوثيها تقديم مطلبهم مباشرةً للإمبراطور ولما زعم المبعوثون أنهم لا يعلمون من يكون هذا “القيصر” أو أين يمكنهم إيجاده؟ أرسل معهم بترونيوس مرافقين) هي محاولة اثبات جهل المرويين بروما وقيصرها وكأن راؤول يتحدث عن الأفارقة في عهد الاحتلال البريطاني والحقيقة ان الكنداكة في عام 24 ق.م قبلت دعوة القيصر أغسطس لزيارة روما والتفاوض المباشر معه وقد وجدها فرصة سانحة للإنهاء الحرب حتى لا تسقط مصر في يد الكوشيين وهي مستعمرة خاصة به وفق اتفاق سري بينه وبين مجلس الشيوخ الروماني. ثم يكمل راؤول بالقول: (في ذلك الوقت كان أغسطس في جزيرة ساموس اليونانية، يعقد تسوية دائمة مع الإمبراطورية البارثية (الفُرس)، وكان قد استقبل للتوِّ سفراء من الهند، وعامل الإمبراطور المبعوثين المرويين بحفاوة، وأجاب كافة طلبات أماني ريناس بما فيها انسحاب الرومان من الأراضي النوبية، التي تطالب مملكة مروي بأحقِّيتها في ملكها) الحفاوة التي استقبل بها أغسطس الكنداكة وتلبية كل طلباتها تكشف من القوي ومن الضعيف في مفاوضات جزيرة “ساموس” والسؤال: كيف أمنت الكنداكة شر الرومان وذهبت الى جزيرة يونانية لتفاوضهم بكل شجاعة؟ والاجابة انها لم تخشي غدرهم وفي قبضة يدها أرواح آلاف الجنود الرومان الأسري داخل اسوار “نبته” وجيشها قادر على اجتياح مصر لذا كان القيصر هو من يسعى للسلام معها وليس العكس. ثم يركن راؤول الى ما ذكره المؤرخ استرابو بقوله: (عندما حصل السفراء على كلِّ ما طلبوه، تجاوز أغسطس المدى بكرمه فأعفاهم من الجزية التي كان قد فرضها عليهم) وتلك كذبة تخالف المنطق!! لان الجزية لم تفرض على مروي التي لم يسطع الرومان احتلالها وانما على سكان “سيني” سيرين خلال احتلالهم لها. ثم يجتهد راؤول في تبرير ذاك الانبطاح من قبل قيصر روما أمام عظمة الكنداكة فيقول: (ربما اقتنص أغسطس الفرصة ليُظهِر حِنكته السياسية، أو ربما أدرك أن النوبة سيكون من الصعب نشر الحاميات فيها. علاوة على ذلك، فحُسْن العلاقات الدبلوماسية مع مروي كان له فائدة مالية إذ تمكَّن الرومان من جباية ضرائب جمركية مربحة من البضائع العابرة من النوبة إلى مصر).
خلاصة القول إن المكتشفات الأثرية لتلك الحرب كانت هي من تثبت زيف ما كتبه راوول ماكلوكلين وغيره، ومنها اكتشاف ضريح في جنوب مروي لـ لوحتين حجريتين تخلدان ذكرى انتصار أماني ريناس وابنها الأمير اكينيداد على أرمي (روما) كما اكتشفت بعثة أثرية بريطانية رسوماً جدارية تُظهِر جلْبَ مساجين أجانب إلى مروي تُظهِر تلك الصور أسرى شُقْر الشعر، بيض البشرة، يرتدون ملابس رومانية، مكبلين بالأغلال، مُجبَرين على النزول على رُكَبهم جثياً أمام أحد آلهة مروي.
تزييف راؤول ماكلوكلين لتاريخ الكنداكة ليس سوي مثال صغير على الأكاذيب التي لا تنتهي التي يشوه بها بعض علماء الاثار الحضارة الكوشية بينما نحن نسجل غياباً شبه كامل لتصحيح هذه الصورة على مستوي الإعلام قبل المحافل الدولية العلمية المختصة.
نقلاً عن المواكب