الفنان الطيب عبدالله والحزام الأفريقي

يدور حوار ثري وسط الزملاء في موقع سودانيزاونلاين عن عبارة خرجت من العقل الكامن في قلب الفنان الرمز الطيب عبدالله أثناء حوار أجرته معه قناة الشروق. ولم نحصل بعد على دقيق العبارة الدارجة وسياقها الذي فيه توطنت وهجعت ثم هيجت عقول الأسفيريين. وانطلاقا مما نقل عن الفنان الكبير أنه استخدم مصطلح (العرق النقي) في ملابسات ثقافة بعض منتمين إلى المجموعة الجعلية، وذلك كلما جد موضوع العرس في السودان الأوسط أو الشمالي، خصوصا حين يكون العريس غريب الوجه واللسان عن المنطقة وربما العروس أيضا. وعلى فكرة أن شخصي الضعيف لا يملك عرقا نقيا بمقاييس تلك الفئة المغالية من المجموعة. ومع ذلك صار أبنائي يحملون دم الجعليين السعداب، ما يعني أن التعميم أحيانا مخل عند الحديث عن عنصرية القبائل. وبذات القدر نتفق مع الطيب عبدالله أن أفرادا كثر من قبيلة الجعليين تصاهروا مع كل مناطق السودان بذات القدر الذي تصاهر فيه ابناء من قبائل الوسط النيلي في التخوم ذات الأصل الأفريقي.
الواقع أن المرء يفتخر كونه ابن الحزام الأفريقي وعلى هذه الأساس أمت بصلة القرابة إلى الفنان الطيب عبدالله الذي هو أيضا ابن هذا الحزام. ولا مهرب له منه إلا بالحلم، والحلم مشروع إذا أردنا إخفاء الأصل حين نتصور أنه وضيع. ولكن يبقى هذا الحلم معطونا بأزمة نفسية عنوانها كراهية الأصل. والحقيقة أنه لا توجد قبيلة سودانية لم يمسها تصاهر هذا الحزام الذي ينطلق من آخر نقطة في المحيط إلى مدينة بورتسودان، ويتعدى البحر الأحمر إلى السعودية واليمن إلى الخليج. ولكل ذلك جاءت المدارس الفكرية كلها لتقول بأننا خلاسيون، نصلي بلسان ونغنى بلسان كما قال الشاعر محمد عبد الحي. وقال زميله في مدرسة الغابة والصحراء محمد المكي إبراهيم:
يا بعض زنجية
وبعض عربية
وبعض أقوالي أمام الله.
لست هنا مهموما بتخطئة الفنان الكبير الذي استمتعنا بغنائه الجميل، أو الدفاع عنه أمام الوصف الذي لحقه بالعنصرية أو التنكر لسودانيته حين عاد إلى اليمن. ولكن قصدت الإفصاح بأن لا قيمة للتفكير القبلي في مسعانا القومي لإقامة وطن يحس فيه كل مواطن بأنه يعكس صورته. فبذات القدر الذي يفتخر فيه الجعلي في دائرة الأنس، أو شعر المناسبات، بأصله كذلك يفتخر الشايقي، والبجاوي، والنوباوي، والزغاوي، والمحسي، والأرينغاوي. ومن الخطأ الكبير، بل من موت القلب والعقل والوعي ـ وليس من العنصرية فقط، أن يحس أحدنا أنه أفضل من الآخر لمجرد أنه ذو أصل عربي أو أفريقي أو هجين.
صحيح أن هذه العنصرية كانت أحد عوامل الصراع الدائر حين ارتبطت بالسلطة ووظفت من خلال جهاز الدولة، ولكن لا ننسى أن هناك عوامل أخرى خارجية، وآيديلوجية، و”تكوينية دولتية”، واقتصادية، وسايكولوجية، عقدتها وأنتجت هذه المآسي الحادثة في مركز وهوامش السودان. ومع ذلك لا يتردد المرء من القول إن العبارات العنصرية كامنة لدى كل قبائل السودان، والافتخار بالأصل موجود لدى كل عشيرة ويتجسد في أمثالها، وشعرها، وحكاويها. بل إن أبناء العمومة في السودان حين يختلفون يعاير جانب الآخر بعبارة أن لديه “عرقا مندسا” في الجدة التي أحيانا يخفونها مرات في غرفة قصية عن أعين الزوار، كما يخفى كبار السن، والمعاقون للأسف. وهذه العنصريات، المنبثقة من طبيعة تخلف المجتمع، تحتاج إلى وقت لكي تختفي، وإلى وعي يبذله النخبة، وإلى دعم من الموصلات الإعلامية والثقافية في سبيل تكوين القومية السودانية التي تنصهر فيها الأقوام جميعها.
إذا ركزنا على محاربة العنصرية المتصلة بجهاز الدولة على اعتبار أنها أس المشاكل وما عداها ضرب من الوهم الفلسفي سندخل بالبلاد إلى مرحلة الفناء التام. لا بد أن نشرح مشاكلنا جيدا قبل طرح أو تلبية المطالب التي تأتي من الأطراف. والناظر لتاريخنا أن نخبة الأطراف ظلت تطرح مطالبها منذ إتحاد عام جبال النوبة، وجبهة الشرق، وجبهة نهضة دارفور. ولكن تلبية المطالب وحدها لم تحل المشكلة. فالآن نلاحظ أن دارفور أخذت منصب نائب الرئيس، وثلث وزارات مجلس الوزراء، ومئة من النواب البرلمانيين تقريبا، وسلطة إقليمية. ومع ذلك لم يستطع سيسي، أو”التشريعيون” الإسلاميون، أو أبو قردة، أو دوسة، أو علي محمود، أن يحلوا معضلة الإقليم والسودان.
فالمحاصصات الوظيفية، وحدها، لا تخلق واقعا شفافا تستقيم فيه الأشياء في ظل غياب الديموقراطية، وإنما تزيد حدة الأزمة في أحيان كثيرة. ولاحظنا أن دارفور برغم تلبية هذه المطالب إلا أن نزاعها الدموي عاد أكثر دموية منذ الشهرين الأخيرين للعام الماضي إلى الآن. وهناك أهلنا في الشرق الحبيب الذين قيل إنه تم تمثيلهم بمستشار في رئاسة الجمهورية، وبعض الوزراء، وسلطة إقليمية، ولكن ما يزال الوضع في الشرق في حاله، إذ يعاني المواطنون من شظف العيش. ولم يحسوا بأثر إيجابي بعد للاتفاق الذي ابرم منذ ما يزيد عن عامين. وقس الأمر على جنوب كردفان والنيل الأزرق.
أما نخبة المركز النيلية، ولأنها فكرت ثم دبرت أن اتقاء شر أهل الهامش بوظائف هنا وهناك سينجيهم من تبعثر المكاسب السياسية والاقتصادية للحفنة العاملة في جهاز الدولة، فقد ضلت الطريق وخاب فألها. أكثر من ذلك أنها عرضت مصالح ومستقبل اهلها والآخرين إلى المخاطر الوجودية. فالحكومات المركزية ما بعد الاستقلال أنفقت مليارات الدولارات في سبيل إسكات الأصوات التي تطلب المساواة بين عشائر السودان في فرص العمل العام والخاص. وكذلك أنفقت الدولة لنصف قرن عصفا ذهنيا شغلها عن واجباتها الأساسية، وتطوير هياكلها، وتنمية مواردها، وأسس استقرارها. ولو أن أنفقت الدولة هذا العصف في تأمل المآل الكارثي لهذه المعالجات التخديرية لما وصلنا إلى هذه المرحلة التي صار فيها كل السودانيين معرضين لفقدان وطنهم، وهويتهم الجمعية التي اكتسبوها ردحا من الزمن.
وموضوع الهامش لم يرتبط بالهامش السياسي الذي حرصت بعض حركات المقاومة المسلحة والحكومة لشئ في نفسها حصره سياسيا لدواع لوجستية. ولكن هامش السودان الجغرافي جميعه ظل يعاني من شظف العيش، وتردي الخدمات، وغياب التنمية، وهجرة عقوله المبدعة. فلو أخذنا الإقليم الشمالي برمته والوسط ـ وحظي أنني تجولت فيه أكثر من تجوالي في الهامش السياسي ـ ظل مهملا من نخب الوسط النيلي السلطويين. فالسلطة التي تدير الخرطوم برغم أن زعامة عضويتها تنتمي إلى هذه المناطق ويتسنمون مناطق حساسة في الدولة إلا أن غالبية السكان هناك قد هجرت تلك المناطق التي عاشت فيها. بل إن بعضهم هاجر إلى دارفور، وجبال النوبة، والنيل الأزرق، والشرق، وهناك وجد رزقا أكثر من رزق الذين استقروا في الخرطوم أو الجزيرة. ويجب ألا يغيب عن ذهننا أن مجموعات شمالية كبيرة أصبحت جزء من المكون الديموغرافي للهامش السياسي، بل اندمجوا وسط القبائل هناك وحمل ذوو الأصل الجعلي، والشايقي منهم السلاح لمقاومة سلطة الحاج آدم، وجلال تاور، وأيلا.
وبينما هذا هو واقع الحال فإن الهجرات المليونية التي شردت من البلاد عرضت الجيل الجديد من السودانيين في المنافي إلى فقدان الهوية والذوبان بعرقهم النقي وغير النقي وسط الأقليات السوداء في أوروبا وأمريكا. ولا ندري إلى أي مدى يمكن للجيل الثالث من أبناء السودانيين المهاجرين أن يحافظوا على الانتماء إلى هذه القبيلة ذات الأصل العباسي أو الأفريقي. ولكن على الأقل ندري أن هويتهم السودانية ستتلاشى وربما يتلاشى انتماؤهم إلى الإسلام بالكيفية التي قام عليها جيل الآباء والأجداد، وقد يصبح بعضهم مسيحيين ينجبون ذرية مسيحية كما هو حال الرئيس الأميركي باراك (حسين) أوباما. وكل ذلك خير ما دام أن حقيقة الهجرات السكانية منذ بدء الخليقة كانت التدافع بين الأقاليم الإنسانية. ولولا هذه الحقيقة لما تكون السودان ولما استمتعنا بغناء الطيب عبدالله وأدب عبدالله الطيب.
يا أيتها السودانيات العربيات لا تغادرن الدنيا دون أن تحققتن شيئين هما: أن تكونن فخورات بأصلكن الخلاسي الذي أنتجه الحزام الأفريقي، وأن تبعدن عن تبييض الوجه الذي هو علامة حرج مع الذات. وليس للجمال لون. ويا أيها السودانيون العرب اعتزوا بأفريقيتكم التي ليست هي عرق دساس وإنما بائنة في شكلكم. “وفي أنفسكم أفلا تبصرون”. صدق الله العظيم.