النموذج التنموي يبدأ بمكافحة الفقر وتحسين شروط الحياة

يحظى السودان اليوم بفرصة تاريخية لم يسبق لها مثيل منذ استقلاله، لإنجاز نموذجه التنموي الخاص، بعدما انفتح لمستقبله أفق سياسي جديد، بفعل ثورة شعبه التي أزالت عقبة رئيسة في طريق تطوره الوطني، متمثلة في حركة الجبهة الإسلامية – بعناوينها المختلفة – وهو ما يعني أن السودان قد خرج لتوه من نفق مظلم خَبر متاهاته وعراقيله جيداً، وشمَّر عن ساعديه مدفوعاً بروح العصر للحاق بركب التقدم الإنساني، والتمسك بأسبابه.
ولئن كان ثمة حُلم واحد راود السودانيين كافة خلال مواكبهم وفي اعتصاماتهم، فإنه سيكون على وجه التحديد الحلم بتأسيس دولة الرعاية الاجتماعية التي تتحقق فيها النهضة الحضارية والمدنية، إلى جانب التنمية الشاملة والمتوازنة والمستقلة، وهذا ما يجب على السياسيين فهمه والتوقف عنده، وهو أن الممارسة السياسية في بلادنا إذا لم تخدم بعد اليوم قضية التنمية، وإذا لم تكن رافعة لها، وإذا لم تكن وسيلة للتخطيط والتنظيم لبرامجها، فإنها – أي الممارسة السياسية – ستسبح عكس تيار الثورة، وستقف ضد طموحات شهدائها وأسرهم وذويهم، وعلى هذا الأساس ينبغي أن يتغير الفكر السياسي لدى جميع الأحزاب والفاعلين السياسيين، من فكر قائم على الصراع الأيديولوجي، إلى فكر يتوسل السياسة لتحقيق غايات وأهداف العملية التنموية.
ولعل أبرز ما يحتاجه السودانيون بشكل ضروري للتخلص من أكبر حمولات تركة الفشل السياسي والفساد والاستبداد والحرب، هو القضاء التام على الفقر، إلى جانب تحقيق السلام الشامل؛ فبدون معالجة قضية الفقر لن يكون ثمة معنى لأي اتفاق سلام يبرم بين السلطة الانتقالية والحركات المسلحة، علاوة على أن هذا السلام لن يستمر طويلاً؛ لأن رافداً رئيساً للحرب وأحد مسبباتها سيظل قائماً.
وفي هذا السياق، قد يكون من المفيد الإشارة إلى أن اتجاهات التنمية الحديثة قد تجاوزت التصورات التقليدية في مجال التنمية المعتمدة على مؤشرات الاقتصاد الكلي لقياس التقدم في معدلات النمو، استناداً إلى دلائل ملموسة تفيد بأن النمو الاقتصادي لا يقلص دائماً الفقر، وأن زيادة الدخل القومي لا تنعكس بالضرورة على تحسين مستويات المعيشة، كما هو الحال على سبيل المثال في النموذج الهندي، الذي بدأ مع مطلع تسعينيات القرن الماضي نموذجاً تنموياً يعتمد على اقتصاد السوق، ويحقق أعلى معدلات نمو، وفي الوقت ذاته ما زالت الهند تعاني من وجود أكبر كثافة للفقراء في العالم.
وفي الحالة السودانية بأزماتها الاقتصادية المعقدة والمركبة، التي تتعدد فيها أبعاد الفقر، وتتدنى فيها المعيشة إلى مستويات بالغة الخطورة، تبرز الحاجة إلى إيجاد حلول متعددة الرؤوس والزوايا، تتضافر فيها جهود التخطيط والتطوير من قبل عدة مؤسسات، مع اللجوء إلى مؤشرات تنموية متنوعة للنظر في قضايا مكافحة الفقر ورفع جودة الحياة.
وفي سبيل ذلك، فسيكون من الأفضل لو سارعت السلطة الانتقالية في تشكيل مفوضية مكافحة الفقر المطروحة في الوثيقة الدستورية، وأن تضيف لها مهاماً بحثية معنية بالتخطيط لتحسين شروط الحياة ورفع جودتها، وتطوير قابلية العيش، ليصبح اسمها كمثال: “مفوضية مكافحة الفقر ورفع جودة الحياة”، وإذا كانت مكافحة الفقر تعني زيادة الدخل الحقيقي للفرد، والعدالة في توزيع الثروة، ودعم السلع الأساسية بما يحفظ كرامة المواطن، ويرفع من مستوى قوته الشرائية، فإن عملية تحسين شروط الحياة، ترتبط بحزمة من الموضوعات، على رأسها تطوير المدن والريف بالبنية التحتية والتصميم الحضري والسكن، وتوفير الرعاية الصحية بالتركيز على نتائج بعض المؤشرات، مثل مؤشر متوسط عمر الفرد، وأعداد المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية، ومدى انتشار بعض الأمراض مثل الملاريا والتيفوئيد، وتسهيل الخدمات الحكومية، وبسط الأمن، وتمكين المواطنين على قدم المساواة من حيازة الفرص الاقتصادية والتعليمية، بما يطور مستوى كفاءتهم المهنية، ويعينهم على مراكمة الثروة.
إن قضية رفع مستوى جودة الحياة تتطور تدريجياً وبالخطط السنوية، وصولاً لإيجاد معايير عالية لجودة الحياة بعد عدة سنوات، على أن تبدأ من الأطراف، ومن الولايات الأكثر فقراً؛ بهدف رفع متوسط الأعمار، وتقليل الجريمة، ورفع مستوى رضا المواطنين عن حياتهم، وتحقيق المساواة بينهم في فرص الاستمتاع بها.
وفي الأثناء، فإن عملية تحسين شروط الحياة وقابلية العيش، يجب أن تقترن في النظام الديمقراطي بتوفير نطاق واسع من الخيارات المتعلقة بنمط الحياة، عبر تمكين المواطنين وتشجيعهم على المشاركة في الحياة السياسية والنقابية، وتوفير خيارات متعددة في السلع الاستهلاكية تلبي الأذواق المتنوعة، وعبر خلق أنشطة رياضية وترفيهية وثقافية وفنية، يتجاوب معها الناس بمختلف أعمارهم وأذواقهم وأنماط وعيهم.
عبدالرحمن فاروق
الحداثة