مقالات وآراء سياسية

في السودان غاب المثقفون وتمكن النشطاء!

محمد التجاني عمر قش

بنظرة سريعة لتاريخ السودان الحديث والمعاصر، يتضح لنا أن معظم الذين كانوا يشغلون المناصب الدستورية والسياسية والإدارية والتنفيذية العليا، إن لم نقل جميعهم، من أصحاب الثقافة العالية والخبرة الواسعة والحنكة والتجربة الواسعة، الذين خرجوا من رحم الحركة الوطنية، منذ ظهور نادي الخريجين، مروراً بفترة ما قبل الاستقلال وحتى منتص الستينات، ويشمل ذلك العسكريين، من أمثال الأميرالاي – عميد المهندس عبد الله خليل بيك. فقد تخرج عبد الله خليل من كلية غوردون بالخرطوم، قسم المهندسين، وألتحق بالمدرسة الحربية. فهو إذن من الذين نالوا حظاً من التعليم الجامعي المرموق في عصره. والجنرال إبراهيم عبود أيضاً تخرج في كلية غوردون التذكارية ثم التحق بالمدرسة الحربية. ومن نافلة القول الحديث عن أشخاص من أمثال الزعيم الأزهري وأحمد خير المحامي ومبارك زروق ومحمد أحمد المحجوب، والشريف حسين الهندي، ويحي الفضلي، وغيرهم من جهابذة جيل الحركة الوطنية الذين قادوا البلاد، بوعي وتجرد كامل ومشهود؛ حتى تحقق الاستقلال وتكونت أول حكومة وطنية ضمت في وزارتها مجموعة من أصحاب الفكر الوطني الخالص، الذين خرجوا من رحم الحراك الذي شهدته الساحة السودانية، منذ بروز الجماعات الثقافية في مدن العاصمة المثلثة والمدن الإقليمية الأخرى، فأثرت الفكر ونشط على إثرها الأدب والفن.
ونتيجة لذلك العمل الوطني الدؤوب اكتسب العامة بعض المعارف الأساسية اللازمة للحراك السياسي، حتى إذا تكونت الأحزاب كانت هنالك قواعد تستوعب كثيراً من متطلبات العمل العام وأساليبه، وشارك الناس في الفعاليات السياسية والحزبية. ولم ينحصر الحراك في العاصمة بل انداح حتى وصل المدن الصغيرة والأرياف في كل مناطق السودان. وصحب ذلك نشاط طلابي في كلية غوردون والمدارس الثانوية فيما بعد، وظهرت طلائع المثقفين والموظفين وراجت بينهم الأفكار عبر ما يصل إليهم من كتابات ينشرها كبار قادة الفكر وأصحاب الأقلام النيرة في الصحف التي كانت تصدر في تلك الحقبة المبكرة من تاريخ الصحافة السودانية.
وقد يقول مكابر إن الحركة الوطنية، في بداية أمرها، قد ارتمت في أحضان الطائفية، ولكن يرد على هذا القول بأن الطائفية كذلك أبرزت قادة مشهودة لهم بالكفاءة والحس الوطني من أمثال السيد علي الميرغني، ومن كان يدين لهم بالولاء في حزب الشعب الديمقراطي، مثل الشيخ علي عبد الرحمن وغيره كثر. وفي المقابل فإن الساسة الذين انضووا تحت لواء الحركة الاستقلالية التي كان حزب الأمة يمثل فيها رأس الرمح، قد وجدوا كامل الرعاية من لدن السيد عبد الرحمن المهدي، الذي جسد الوطنية بأسمى معانيها وقيمها، فحاز التأييد من مثقفين كثر من شاكلة المحجوب والسيد محمد صالح الشنقيطي وغيرهم.
بالطبع هنالك قيادات مثقفة من مختلف أقاليم السودان بمن فيهم الإخوة من الجنوب وبعضهم من الغرب والشرق وجبال النوبة. وما يجمع بين كل أولئك المثقفين الأوائل هو الوطنية والنزاهة والتجربة السياسية المكتسبة عبر الحراك المتواصل حيث صقلتهم الأحداث والتفاعل مع القضايا الوطنية، حتى أن من كانوا يرفعون شعار الوحدة مع مصر أعلنوا الاستقلال من داخل البرلمان عندما علموا أن ذلك هو ما يحقق رغبات الجماهير بمختلف مشاربها وتوجهاتها!
وجميع طلائع الساسة السودانيين عرفوا بالوسطية والاعتدال، ولكن في رأيي أن مما أضر بالحركة الوطنية هو ظهور الأحزاب الأيدولوجية من يمين، تثمله حركة الإخوان المسلمين، ويسار متطرف، تمثل في الحزب الشيوعي السوداني. فقد سعت الأحزاب الأيدولوجية إلى تكوين واجهات مختلفة وسط الطلاب والعمال والموظفين، وصار الانتماء للحزب والفكرة أقوى من التوجه الوطني. وقد أثر ذلك سلباً على الحركة الوطنية خاصة؛ بعد قيام الشيوعيون بانقلاب مايو 1969، ومحاولتهم لفرض فكر دخيل على الساحة السودانية؛ فتحولت أحزاب الوسط واليمين إلى معارضة شرسة، ذات طابع عسكري، هدد الاستقرار والأمن القومي.
وتكرر ذات المشهد بعد تولي الإسلاميين الحكم عبر العسكر، فتحولت أحزاب الوسط واليسار إلى معارضة رهنت إرادتها لدوائر الاستخبارات الإقليمية والدولية، الأمر الذي شجع النشطاء السياسيين من مختلف المشارب، فتولوا الشأن العام بدون تجربة أو خبرة أو خلفية وطنية أو ثقافية. وهذا ما يفسر ما تشهده البلاد حالياً من تخبط في كافة المجالات السياسية والاقتصادية وحتى الأخلاقية، فقد ظهرت سلوكيات لم يعرفها السودان من قبل. وصار الحصول على الخدمات والحاجات الضرورية من وقود وخبز ودواء هو ما يشغل الناس في الريف والمدن.  والاسوأ من ذلك كله تحولت البلاد إلى مرتع خصب تجول فيه عناصر الاستخبارات من كل حدب وصوب، ونخشى أن تفرض علينا بعض الأجندة عابرة الحدود وتدخلنا في دوامة من الصراع الذي قد يفضي إلى حرب أهلية لا تبقي ولا تذر.
المخرج الوحيد من هذه المعضلة أو المأزق، هو تقدم المثقفين الصفوف وإعلاء الشأن الوطني، مع الابتعاد عن الإقصاء والمحاصصة السياسية، على أقل تقدير خلال الفترة الانتقالية؛ حتى تتاح الفرصة للشعب لكي يختار ممثليه عبر انتخابات حرة ونزيهة وبمراقبة دولية. هذا الوطن لا يحتمل المزايدات وقد آن وقت المثقفين والخبراء المعتدلين.
محمد التجاني عمر قش <[email protected]>
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..