مقالات وآراء

صيف الشرفاء وشتاء الإسلاميين

أ. ياسر عوض الزين

من المعلوم والذي لم يمضي عليه مدى التقادم المسقط من الذاكرة أن ثورة ديسمبر قامت أصلاً ضد الإسلاميين الذين سرقوا البلاد بمن فيها وما فيها، وأحالوها لضيعة صغيرة حقيرة تنتاشها أنيابهم الدامية في كل مفاصل حياتها، دون استثناء، حتى عصفت بها الأزمات والمشاكل، ليس فقط بسبب الإخفاقات وفشل السياسات بل بالفعل المنهجي المخطط عبر برامج التمكين الشامل الذي لم يستثن مرفقاً واحداً بغير توطين كوادرهم وتسكين مواليهم. وبما أن فلسفتهم تقوم على توظيف الدين لخدمة أهدافهم كان أهم برامجهم ما تعلق بمجال المال والأعمال لأن (تسعة معشار الرزق في التجارة) حيث صدرت التوجيهات للبنوك وبيوت التمويل لاستثناء الإسلاميين ومحاسيبهم من الإجراءات والضمانات اللازمة للتمويل والتقييد، وتم بيع كل مؤسسات الدولة الرابحة لهم عبر اللجان الصورية والعطاءات المسرحية والتسهيلات الجمركية، والتي كانت تنفذ بمنتهى الحزم والحسم في مواجهة الجميع، ما خلاهم، وكان من الطبيعي والواضح توظيف جهاز الدولة لخدمة هذا البرنامج المطاطي الذي تمدد أفقياً فشمل كل مناحي الحياة، وتطاول رأسياً منذ يوم شؤمهم الأول وحتى تاريخ سقوطهم؛ لأن تفسيرهم لحديث المؤمن القوي هو القوي (إيمانياً) ومالياً، وظلوا على هذا الحال حتى سقوطهم المجيد تحت أقدام ثورة ديسمبر المجيدة.

وللأسف كانت حصيلة ذلك خلال ثلاثين عاماً أن تحولت كل ثروات الوطن ومقدراته للإسلاميين، حصراً، يتقاسمونها بنسب مقدرة ومحسوبة بعضها لقياداتهم بأذرعها المختلفة، وبعضها للحزب والحركة، وبعضها للتنظيم العالمي للإخوان، وبعض فتاته للصوص والنفعيين والانتهازيين، الذين كانوا يشترونهم ويغدقون عليهم، وللأسف لم يكن بعضاً منه للتنمية أو الإنتاج، فلم يكن لهم أفق لذلك المدى، وكل ذلك كان يتم عبر شراكات بعضها شخصي وبعضها يتبع لبعض القوات النظامية وغير النظامية، عبر شراكات نسبة الأقل من 20% لتجنب حضور المراجع العام، وحين يحاولون ايهام البعض أن هذه الأموال صرفت على التنمية التي لم يظهر لها أي أثر في حياة الناس، إلا ما ذكره المخلوع حول تعليمهم لنا أكل (البيتزا والهوت دوق) وليتهم ما علمونا (إن كانوا حقاً فعلوا). فكل ما يذكروه من طرق وخلافه هي قروض نهبت في أصولها وانشئت هذه المنشآت بما يقل عن عشر قيمها المسجلة فعلاً على الدفاتر (وهذا ما يستدعي تحقيقاً شفافاً لكل المشاريع الكرتونية التي أهدرت فيها الأموال من حيث حقيقية عطاءاتها وتكاليفها المسجلة حسب دراساتها ومطابقة التنفيذ للدراسات وحساب الكلفة الحقيقية قياساً إلى سعر الدولار في كل مرحلة ومحاسبة الجهات الاستشارية على صدقية استلامها لها).
بالطبع فالنتيجة الحتمية لهذه السياسات إفلاس كل الشرفاء من أبناء هذا الوطن واحلال طبقة رأسمالية طفيلية جديدة سيطرت على الواقع الاقتصادي والمشهد السياسي كاملاً، ولم يعد هناك من يستطيع تحديهم وهم يتسلحون بأدوات الدولة التي كانت تصدر لهم القرارات بحسب وجهة مصالحهم لاستحلاب كل ما يتوافرون عليه من عرق الشعب وكده ببطش السوق أو السلطة أو كليهما معاً، ومذاك لم يعد للقرار السياسي من مجال لإعلاء صوته إلا بإذن القرار الاقتصادي، وكان هذا الربط الجهنمي المحكم وسيلة للجم كل من يحاول التفلت على مستوي السلطة من داخلها أو خارجها، آنذاك، أو للتحكم في السوق والشارع والقرار السياسي، ولوحدث أي تغيير فلا يجب أن يخرج من تحت إبطهم النتن.

ولكن ثورة ديسمبر فاجأتهم بالقدر الذي أربك حساباتهم بصورة غير مسبوقة وجعلتهم يترنحون ولا يستطيعون التماسك أو الوقوف بوجه هذا المد الذي تحدي كل ترساناتهم من القوانين وجيوش القوى الأمنية المختلفة، نظامية وغير نظامية، والتي أفرغت كل ما تربت وتدربت عليه في كنف الإسلاميين من غلٍ وحقدٍ على شعبهم لحماية هذه الإمبراطورية الشيطانية الفاسدة، ولمّا أعياهم سعيهم الخائب، أحنوا ظهرهم للعاصفة وانبطح أكثرهم، وهرب أغلبهم ولاذوا بملاذات تعصمهم من توهمهم أن شعار الثوار (أي كوز ندوسو دوس) حسب وعيهم الإرهابي ومعايير فكرهم الظلامي الدموي، حسبوا أن هذا الدوس هو فقط ما يعلمونه من قتلٍ وسحلٍ وما إلى ذلك.
فلما تشكلت الحكومة بدا صوتهم الخافت في الارتفاع درجة فدرجة، ولما لم يلتفت إليهم أحد شرعوا في الخروج من مكامنهم، وحين وجدوا أن الحكومة من الضعف بالقدر الذي سمح للعسكر بالتمدد، وهم ذات العسكر خريجي كليات التمكين التي نالها منهم ما طال كل مؤسسات البلاد من تجريف للعناصر الوطنية، وهندسة التزكيات لها من مطابخ الحركة الإسلامية، ومن ثم بدأت المخططات بتبادل الأدوار تارة والايعاز لهم باشعال البلاد وخنقها اقتصادياً بأموال السحت التي كنزوها، وكان الشعب يقاوم رغم علمه بالمخطط والذي يشابه مخطط 88 في كل مفرداته وعناصره، بعد أن بدأ بالتجويع من خلال التحكم في السوق بالأموال التي سرقوها إبان مشاركتهم لمايو، والتي استمرت لثمان سنوات كانت أسوأ سنوات مايو على الإطلاق بعد أن بدأت الإضرابات والتظاهرات والاعتصامات الفئوية والمطلبية، والتي كان بعضها محقاً تماماً لفشل السلطة آنذاك في العمل الجاد باتجاه تحقيق أهداف الانتفاضة والتقاعس في المطلب الثوري الأساسي في تصفية آثار مايو، بل وشرعت في التماهي معهم والاقتراب منهم حد إشراك الجبهة القومية الإسلامية في سلطة انتفاضة قامت لأجل تصفية سياساتهم وركائزهم التي فعلت بالبلاد أكبر الجرائم السياسية والاقتصادية مما أوصلها إلى المجاعة الكاملة، وللأسف كانت هذه المشاركة في السلطة من قبل الإسلاميين الذين كانوا أصلاً مستهدفين بالتصفية والإزالة كانت القشة التي قصمت ظهر بعير انتفاضة مارس أبريل، وكان ناتجها الأسيف هو انقلاب 30 يونيو وثلاثين سنة ظلماء أحكمت خناقها على شعبنا، والذي ما استفاق منها إلا وقد وجد ذات الحبل يتراقص أمامه حافراً على حافر.

فمن قبل أن ترسخ الثورة أقدامها على الأرض بدأ البعض في البحث عن المكاسب وبدأ التخوين بين رفاق الثورة، وخرجت قوى ذات أثر بين وواضح في اسقاط النظام، وبدأ التشاكس، حينها بدأ الاسلاميون في محاولات ترتيب صفوفهم لانشغال قوى الثورة عنهم بمعاركهم، والكل يذكر محاولات الزحف الأولى ولكن وعي الشعب وقربه ودرجة تماسكه وقتها ألحقت بهم الهزيمة النكراء تلو الهزيمة، والجميع يذكر تحول تكتيكاتهم لمحاولة اعتلاء صهوة الثورة والركوب مع الثوار على ذات السرج، فشهدنا كيف أنهم بدأوا يتحدثون عن الشهداء (الذين إغتالوهم بأيديهم) في 30 يونيو و21 اكتوبر و19 ديسمبر، وكيف بدأوا في إطلاق مصطلح (الثورة ثورة شباب) لدق إسفين بين مكونات الثورة المختلفة وهم يعلمون أن الشعب بكامله هو من هب واسقط نظامهم وإن كان للشباب القدح المعلى، فهذا لأسباب طبيعية تتسم بها كل الثورات وفي كل الأوقات والتواريخ كمحددات انسانية عامة ترتبط بشروط التنظيم وعلاقات الإنتاج وسوق العمل وخلافه، ولكن الشباب قطعوا عليهم طريق محاولة تفتيت التركيبة الاجتماعية للثورة.. ثم أنزلوا مصطلحاً آخر وهو (الثورة اتباعت) فمن الذي باع ومن الذي اشتري؟ ثم مصطلح الحزبية والمحاصصات لشيطنة الأحزاب وإبعاد القوي المنظمة والقادرة على مواجهتهم، واستبدالها بعناصر وأفراد يفتقرون للأفق السياسي الكافي لمواجهتها بحساب قدرتها على اصطيادهم عبر وسائلها التقليدية من إرهاب وإغراء.. وللأسف بدأت بعض قوى الثورة في الاستجابة لهذا المخطط بوعي أو بدونه ومن خلاله، بدأت شعاراتهم تطرب البعض وتقدم لهم اسناداً يحتاجونه لمواجهة أعداء افتراضيين من داخل بل وقلب مجال الثورة، وهنا تبدلت الاستراتيجيات بشكل واضح إذ أنهم أصبحوا يختارون قوىً معينة ويتبنوا بعض شعاراتها التي يتوافقون معها عليها لفرض حالة من تداخل الخنادق لاعتياد الرفقة ولو بشكل مؤقت وكسر حواجز العداء رغم أن بعض هذه القوى عافت مجرد اقتراب الإسلاميين ولم تقبل مشاركتهم الخندق وإن تبنوا شعاراتها كاملة، وكانوا يميزون أهدافهم بأسبابها وتاريخها ويربطون الإسلاميين بأسباب تبنيهم للشعارات، ولا مبدئيتهم منها وشيئاً فشيئاً دخل الإسلاميون للاقتيات على اخفاقات الحكومة فيما يتعلق بمعاش للناس، وهذا هو الشعار المفتاحي الذي اختاروه لنا وحاولوا حشرنا فيه قسراً وتوجيه نظرنا عليه بتركيز من زاوية نظرهم وبالتالي قاموا بتأطير تناول هذه القضية من خلال هذا المنظار الذي أعدوه بعناية فائقة؛ لأنه الميدان الذي رتبوه منذ يومهم الأول في السلطة وليس فقط بعد سقوطهم إذ أن كل تلك الأموال والشركات والثروات التي تحدثنا عنها آنفاً والتي كانت تنشط حصرياً في كل تفاصيل التجارة الخارجية والداخلية، والتي كان من المستحيل تماماً لأي كائن كان ما لم يكن مرتبطاً بالتنظيم ومرضي عنه تماماً أن يمارسها لأن الارباح فيها لم تكن ترتبط بالعمليات الحسابية العادية التي يقوم بها التجار، وإنما كانت تقوم بالأساس على مقدار ما يتحصل عليه الشخص المعني من إعفاءات ضريبية وجمركية، ووضعية حصائل الصادر، وحصرية ما يتم لمن يقوم بالاستيراد عبر القرار الحكومي، وما إلى ذلك.. لذلك كانوا يسيطرون على التجارة الداخلية والخارجية وهذا ما يفسر هذا الخنق الذي يقومون به بعد انتقالهم للمرحلة الحالية في مواجهتهم للثورة بعد أن فتح السيد رئيس الوزراء شهيتهم بمنحهم نصراً زائفاً فيما يتعلق بالمناهج، ما أغراهم بمحاولة اسقاط السلطة الانتقالية وإنهاء المرحلة الانتقالية وخلط الأوراق لإعادة توزيعها من جديد بعد أن ظنوا أن بقوى الثورة ضعفاً مماثلاً لضعف رئيس الوزراء، وبعد ما ظنوا أن اقترابهم بخندقهم من بعض قوى الثورة التي رأت أن تبتعد لحسابات تتعلق بمنهجها وتحليلها للواقع أن اقترابهم منها سيفرض حقيقة جديدة تقوم على تداخل الخنادق من خلال ركوب موجة الاحتجاجات الحالية المحقة للثوار على البرنامج الاقتصادي الكارثي للحكومة وتبنيه الكامل لسياسات صندوق النقد والبنك الدولي، والتي تفارق تماماً أهداف ثورته وشعاراتها وبرنامجها الذي طرحته، وذلك مقروءاً مع الاخفاقات السياسية البينة والناتجة من ضعف الحس السياسي لبعض الوزراء وعدم قدرتهم على تقدير المهام السياسية الملقاة على عاتقهم، واعتبار أنفسهم مجرد إداريين عليهم التوقيع والدوام دون ما فعل ثوري حقيقي يوازي ثورة كان مهرها الدماء والأشلاء والأرواح والأفداح ومئات المفقودين.
عليه من المهم جداً أن نحدد زاوية النظر التي ننظر من خلالها لثورتنا ولأهدافها الكلية الاستراتيجية وجرد حساباتها بشكل دقيق وألا نسمح للكيزان أن يحددوا لنا كيفية رؤيتنا للثورة، التي قامت في مواجهتهم أصلاً، ابتداءاً فهم ينظرون لديسمبر على أساس أنها تمرد على سلطتهم بينما نراها ثورة قدمنا فيها ما قدمنا لتحقق أهداف تتعارض بالكلية مع أهداف الاسلاميين الذين يعتقدون أن الثورة قطعت مشروعهم الحضاري وأوقفت رضاعتهم من ثدي الدولة التي عدوها حقاً مكتسباً طيلة 30 عاماً مضت.

نحن نرى في الثورة منجزاً عظيماً يستحق الاحتفاء والتقديس بينما لا يرون فيها إلا جملة اعتراضية وخطأ لابد أن يصحح..
نحن نقدم الثورة بوصفها بوابة السودان للمستقبل وتحقيق الانتقال الديمقراطي الحقيقي بينما يرونها نهاية لأحلامهم وعودة إجبارية لسابق مواقعهم عند قاع التاريخ وسفح الحياة..

ننتظر من الثورة تمتيناً لثقافة الحكم المدني واشاعة للحريات بينما لا ينشطون هم إلا في الظلام ومستنقعات الدماء وكهوف التعذيب..
نرجو منها إعلاء لقيم الحق والقانون وهم لا يعتبرون إلا بشريعة الغاب ودولة اللاقانون..
ولماذا لا نتحدث عن منجزات تاريخية وخطوات ايجابية تحققت أليس السلام منجزاً عظيما رغم محاولاتهم لجر البلاد لحروب قبلية وجهوية ضمن مخططهم العام لنسف الفترة الانتقالية؟
أليست إزالة اسم السودان من قائمة العار انجازاً كبيراً؟
أليس فك طوق العزلة الدولية وعودة البلاد لموقعها الطبيعي ضمن أفراد الأسرة الدولية جهداً يستحق التقدير؟
أليست كفالة الحريات واحترام حق الجميع في التعبير ايجابية لنا حق الفخر والتغني بها؟ وغير ذلك.. كثير من الايجابيات التي يجب ألا نسمح لأعداء الثورة أن يحجبوها عن وعينا، ويحاولون إقناعنا بفشل المدنية، ويقدمون أنفسهم بأي صيغة كانت بديلاً ومخلصاً.

إذن من المستحيل أن تلتقي الثورة بالإسلاميين في أي تقاطع أو مفصل من مفاصل الثورة، ومن المستحيل تماماً أن يجتمع صيف الشرفاء بشتاء الإسلاميين على سطح الثورة، ولا تحت سمائها، إلا إن لم يكن الإسلاميين هم الإسلاميون أو الثوار هم الثوار.. فحين يساهم الإسلاميون في تتريس الشوارع فلا مجال لإحسان الظن أنهم يطالبون بتصحيح مسار الثورة في التراجع عن السياسات التي تخدم أهدافهم وتحقق مصالحهم ولا يطالبون بالمحاكمات الجادة والقصاص للشهداء ولن يطالبوا بتمكين لجنة ازالة التمكين من الوصول إلى كل مواقع التمكين والفساد.
إذن فلماذا يساهمون بالثورة والتتريس إن لم يكن الهدف هو اسقاط الثورة ونسف الفترة الانتقالية مما يحتم على الثوار الانتباه والحذر وعدم الانزلاق إلى تداخل الخنادق وإرباك المشهد بما يعيق الثورة عن المضي قدماً نحو غاياتها وأهدافها..

من المعلوم والذي لم يمضي عليه مدى التقادم المسقط من الذاكرة أن ثورة ديسمبر قامت أصلاً ضد الإسلاميين الذين سرقوا البلاد بمن فيها وما فيها، وأحالوها لضيعة صغيرة حقيرة تنتاشها أنيابهم الدامية في كل مفاصل حياتها، دون استثناء، حتى عصفت بها الأزمات والمشاكل، ليس فقط بسبب الإخفاقات وفشل السياسات بل بالفعل المنهجي المخطط عبر برامج التمكين الشامل الذي لم يستثن مرفقاً واحداً بغير توطين كوادرهم وتسكين مواليهم. وبما أن فلسفتهم تقوم على توظيف الدين لخدمة أهدافهم كان أهم برامجهم ما تعلق بمجال المال والأعمال لأن (تسعة معشار الرزق في التجارة) حيث صدرت التوجيهات للبنوك وبيوت التمويل لاستثناء الإسلاميين ومحاسيبهم من الإجراءات والضمانات اللازمة للتمويل والتقييد، وتم بيع كل مؤسسات الدولة الرابحة لهم عبر اللجان الصورية والعطاءات المسرحية والتسهيلات الجمركية، والتي كانت تنفذ بمنتهى الحزم والحسم في مواجهة الجميع، ما خلاهم، وكان من الطبيعي والواضح توظيف جهاز الدولة لخدمة هذا البرنامج المطاطي الذي تمدد أفقياً فشمل كل مناحي الحياة، وتطاول رأسياً منذ يوم شؤمهم الأول وحتى تاريخ سقوطهم؛ لأن تفسيرهم لحديث المؤمن القوي هو القوي (إيمانياً) ومالياً، وظلوا على هذا الحال حتى سقوطهم المجيد تحت أقدام ثورة ديسمبر المجيدة.

وللأسف كانت حصيلة ذلك خلال ثلاثين عاماً أن تحولت كل ثروات الوطن ومقدراته للإسلاميين، حصراً، يتقاسمونها بنسب مقدرة ومحسوبة بعضها لقياداتهم بأذرعها المختلفة، وبعضها للحزب والحركة، وبعضها للتنظيم العالمي للإخوان، وبعض فتاته للصوص والنفعيين والانتهازيين، الذين كانوا يشترونهم ويغدقون عليهم، وللأسف لم يكن بعضاً منه للتنمية أو الإنتاج، فلم يكن لهم أفق لذلك المدى، وكل ذلك كان يتم عبر شراكات بعضها شخصي وبعضها يتبع لبعض القوات النظامية وغير النظامية، عبر شراكات نسبة الأقل من 20% لتجنب حضور المراجع العام، وحين يحاولون ايهام البعض أن هذه الأموال صرفت على التنمية التي لم يظهر لها أي أثر في حياة الناس، إلا ما ذكره المخلوع حول تعليمهم لنا أكل (البيتزا والهوت دوق) وليتهم ما علمونا (إن كانوا حقاً فعلوا). فكل ما يذكروه من طرق وخلافه هي قروض نهبت في أصولها وانشئت هذه المنشآت بما يقل عن عشر قيمها المسجلة فعلاً على الدفاتر (وهذا ما يستدعي تحقيقاً شفافاً لكل المشاريع الكرتونية التي أهدرت فيها الأموال من حيث حقيقية عطاءاتها وتكاليفها المسجلة حسب دراساتها ومطابقة التنفيذ للدراسات وحساب الكلفة الحقيقية قياساً إلى سعر الدولار في كل مرحلة ومحاسبة الجهات الاستشارية على صدقية استلامها لها).
بالطبع فالنتيجة الحتمية لهذه السياسات إفلاس كل الشرفاء من أبناء هذا الوطن واحلال طبقة رأسمالية طفيلية جديدة سيطرت على الواقع الاقتصادي والمشهد السياسي كاملاً، ولم يعد هناك من يستطيع تحديهم وهم يتسلحون بأدوات الدولة التي كانت تصدر لهم القرارات بحسب وجهة مصالحهم لاستحلاب كل ما يتوافرون عليه من عرق الشعب وكده ببطش السوق أو السلطة أو كليهما معاً، ومذاك لم يعد للقرار السياسي من مجال لإعلاء صوته إلا بإذن القرار الاقتصادي، وكان هذا الربط الجهنمي المحكم وسيلة للجم كل من يحاول التفلت على مستوي السلطة من داخلها أو خارجها، آنذاك، أو للتحكم في السوق والشارع والقرار السياسي، ولوحدث أي تغيير فلا يجب أن يخرج من تحت إبطهم النتن.

ولكن ثورة ديسمبر فاجأتهم بالقدر الذي أربك حساباتهم بصورة غير مسبوقة وجعلتهم يترنحون ولا يستطيعون التماسك أو الوقوف بوجه هذا المد الذي تحدي كل ترساناتهم من القوانين وجيوش القوى الأمنية المختلفة، نظامية وغير نظامية، والتي أفرغت كل ما تربت وتدربت عليه في كنف الإسلاميين من غلٍ وحقدٍ على شعبهم لحماية هذه الإمبراطورية الشيطانية الفاسدة، ولمّا أعياهم سعيهم الخائب، أحنوا ظهرهم للعاصفة وانبطح أكثرهم، وهرب أغلبهم ولاذوا بملاذات تعصمهم من توهمهم أن شعار الثوار (أي كوز ندوسو دوس) حسب وعيهم الإرهابي ومعايير فكرهم الظلامي الدموي، حسبوا أن هذا الدوس هو فقط ما يعلمونه من قتلٍ وسحلٍ وما إلى ذلك.
فلما تشكلت الحكومة بدا صوتهم الخافت في الارتفاع درجة فدرجة، ولما لم يلتفت إليهم أحد شرعوا في الخروج من مكامنهم، وحين وجدوا أن الحكومة من الضعف بالقدر الذي سمح للعسكر بالتمدد، وهم ذات العسكر خريجي كليات التمكين التي نالها منهم ما طال كل مؤسسات البلاد من تجريف للعناصر الوطنية، وهندسة التزكيات لها من مطابخ الحركة الإسلامية، ومن ثم بدأت المخططات بتبادل الأدوار تارة والايعاز لهم باشعال البلاد وخنقها اقتصادياً بأموال السحت التي كنزوها، وكان الشعب يقاوم رغم علمه بالمخطط والذي يشابه مخطط 88 في كل مفرداته وعناصره، بعد أن بدأ بالتجويع من خلال التحكم في السوق بالأموال التي سرقوها إبان مشاركتهم لمايو، والتي استمرت لثمان سنوات كانت أسوأ سنوات مايو على الإطلاق بعد أن بدأت الإضرابات والتظاهرات والاعتصامات الفئوية والمطلبية، والتي كان بعضها محقاً تماماً لفشل السلطة آنذاك في العمل الجاد باتجاه تحقيق أهداف الانتفاضة والتقاعس في المطلب الثوري الأساسي في تصفية آثار مايو، بل وشرعت في التماهي معهم والاقتراب منهم حد إشراك الجبهة القومية الإسلامية في سلطة انتفاضة قامت لأجل تصفية سياساتهم وركائزهم التي فعلت بالبلاد أكبر الجرائم السياسية والاقتصادية مما أوصلها إلى المجاعة الكاملة، وللأسف كانت هذه المشاركة في السلطة من قبل الإسلاميين الذين كانوا أصلاً مستهدفين بالتصفية والإزالة كانت القشة التي قصمت ظهر بعير انتفاضة مارس أبريل، وكان ناتجها الأسيف هو انقلاب 30 يونيو وثلاثين سنة ظلماء أحكمت خناقها على شعبنا، والذي ما استفاق منها إلا وقد وجد ذات الحبل يتراقص أمامه حافراً على حافر.

فمن قبل أن ترسخ الثورة أقدامها على الأرض بدأ البعض في البحث عن المكاسب وبدأ التخوين بين رفاق الثورة، وخرجت قوى ذات أثر بين وواضح في اسقاط النظام، وبدأ التشاكس، حينها بدأ الاسلاميون في محاولات ترتيب صفوفهم لانشغال قوى الثورة عنهم بمعاركهم، والكل يذكر محاولات الزحف الأولى ولكن وعي الشعب وقربه ودرجة تماسكه وقتها ألحقت بهم الهزيمة النكراء تلو الهزيمة، والجميع يذكر تحول تكتيكاتهم لمحاولة اعتلاء صهوة الثورة والركوب مع الثوار على ذات السرج، فشهدنا كيف أنهم بدأوا يتحدثون عن الشهداء (الذين إغتالوهم بأيديهم) في 30 يونيو و21 اكتوبر و19 ديسمبر، وكيف بدأوا في إطلاق مصطلح (الثورة ثورة شباب) لدق إسفين بين مكونات الثورة المختلفة وهم يعلمون أن الشعب بكامله هو من هب واسقط نظامهم وإن كان للشباب القدح المعلى، فهذا لأسباب طبيعية تتسم بها كل الثورات وفي كل الأوقات والتواريخ كمحددات انسانية عامة ترتبط بشروط التنظيم وعلاقات الإنتاج وسوق العمل وخلافه، ولكن الشباب قطعوا عليهم طريق محاولة تفتيت التركيبة الاجتماعية للثورة.. ثم أنزلوا مصطلحاً آخر وهو (الثورة اتباعت) فمن الذي باع ومن الذي اشتري؟ ثم مصطلح الحزبية والمحاصصات لشيطنة الأحزاب وإبعاد القوي المنظمة والقادرة على مواجهتهم، واستبدالها بعناصر وأفراد يفتقرون للأفق السياسي الكافي لمواجهتها بحساب قدرتها على اصطيادهم عبر وسائلها التقليدية من إرهاب وإغراء.. وللأسف بدأت بعض قوى الثورة في الاستجابة لهذا المخطط بوعي أو بدونه ومن خلاله، بدأت شعاراتهم تطرب البعض وتقدم لهم اسناداً يحتاجونه لمواجهة أعداء افتراضيين من داخل بل وقلب مجال الثورة، وهنا تبدلت الاستراتيجيات بشكل واضح إذ أنهم أصبحوا يختارون قوىً معينة ويتبنوا بعض شعاراتها التي يتوافقون معها عليها لفرض حالة من تداخل الخنادق لاعتياد الرفقة ولو بشكل مؤقت وكسر حواجز العداء رغم أن بعض هذه القوى عافت مجرد اقتراب الإسلاميين ولم تقبل مشاركتهم الخندق وإن تبنوا شعاراتها كاملة، وكانوا يميزون أهدافهم بأسبابها وتاريخها ويربطون الإسلاميين بأسباب تبنيهم للشعارات، ولا مبدئيتهم منها وشيئاً فشيئاً دخل الإسلاميون للاقتيات على اخفاقات الحكومة فيما يتعلق بمعاش للناس، وهذا هو الشعار المفتاحي الذي اختاروه لنا وحاولوا حشرنا فيه قسراً وتوجيه نظرنا عليه بتركيز من زاوية نظرهم وبالتالي قاموا بتأطير تناول هذه القضية من خلال هذا المنظار الذي أعدوه بعناية فائقة؛ لأنه الميدان الذي رتبوه منذ يومهم الأول في السلطة وليس فقط بعد سقوطهم إذ أن كل تلك الأموال والشركات والثروات التي تحدثنا عنها آنفاً والتي كانت تنشط حصرياً في كل تفاصيل التجارة الخارجية والداخلية، والتي كان من المستحيل تماماً لأي كائن كان ما لم يكن مرتبطاً بالتنظيم ومرضي عنه تماماً أن يمارسها لأن الارباح فيها لم تكن ترتبط بالعمليات الحسابية العادية التي يقوم بها التجار، وإنما كانت تقوم بالأساس على مقدار ما يتحصل عليه الشخص المعني من إعفاءات ضريبية وجمركية، ووضعية حصائل الصادر، وحصرية ما يتم لمن يقوم بالاستيراد عبر القرار الحكومي، وما إلى ذلك.. لذلك كانوا يسيطرون على التجارة الداخلية والخارجية وهذا ما يفسر هذا الخنق الذي يقومون به بعد انتقالهم للمرحلة الحالية في مواجهتهم للثورة بعد أن فتح السيد رئيس الوزراء شهيتهم بمنحهم نصراً زائفاً فيما يتعلق بالمناهج، ما أغراهم بمحاولة اسقاط السلطة الانتقالية وإنهاء المرحلة الانتقالية وخلط الأوراق لإعادة توزيعها من جديد بعد أن ظنوا أن بقوى الثورة ضعفاً مماثلاً لضعف رئيس الوزراء، وبعد ما ظنوا أن اقترابهم بخندقهم من بعض قوى الثورة التي رأت أن تبتعد لحسابات تتعلق بمنهجها وتحليلها للواقع أن اقترابهم منها سيفرض حقيقة جديدة تقوم على تداخل الخنادق من خلال ركوب موجة الاحتجاجات الحالية المحقة للثوار على البرنامج الاقتصادي الكارثي للحكومة وتبنيه الكامل لسياسات صندوق النقد والبنك الدولي، والتي تفارق تماماً أهداف ثورته وشعاراتها وبرنامجها الذي طرحته، وذلك مقروءاً مع الاخفاقات السياسية البينة والناتجة من ضعف الحس السياسي لبعض الوزراء وعدم قدرتهم على تقدير المهام السياسية الملقاة على عاتقهم، واعتبار أنفسهم مجرد إداريين عليهم التوقيع والدوام دون ما فعل ثوري حقيقي يوازي ثورة كان مهرها الدماء والأشلاء والأرواح والأفداح ومئات المفقودين.
عليه من المهم جداً أن نحدد زاوية النظر التي ننظر من خلالها لثورتنا ولأهدافها الكلية الاستراتيجية وجرد حساباتها بشكل دقيق وألا نسمح للكيزان أن يحددوا لنا كيفية رؤيتنا للثورة، التي قامت في مواجهتهم أصلاً، ابتداءاً فهم ينظرون لديسمبر على أساس أنها تمرد على سلطتهم بينما نراها ثورة قدمنا فيها ما قدمنا لتحقق أهداف تتعارض بالكلية مع أهداف الاسلاميين الذين يعتقدون أن الثورة قطعت مشروعهم الحضاري وأوقفت رضاعتهم من ثدي الدولة التي عدوها حقاً مكتسباً طيلة 30 عاماً مضت.

نحن نرى في الثورة منجزاً عظيماً يستحق الاحتفاء والتقديس بينما لا يرون فيها إلا جملة اعتراضية وخطأ لابد أن يصحح..
نحن نقدم الثورة بوصفها بوابة السودان للمستقبل وتحقيق الانتقال الديمقراطي الحقيقي بينما يرونها نهاية لأحلامهم وعودة إجبارية لسابق مواقعهم عند قاع التاريخ وسفح الحياة..

ننتظر من الثورة تمتيناً لثقافة الحكم المدني واشاعة للحريات بينما لا ينشطون هم إلا في الظلام ومستنقعات الدماء وكهوف التعذيب..
نرجو منها إعلاء لقيم الحق والقانون وهم لا يعتبرون إلا بشريعة الغاب ودولة اللاقانون..
ولماذا لا نتحدث عن منجزات تاريخية وخطوات ايجابية تحققت أليس السلام منجزاً عظيما رغم محاولاتهم لجر البلاد لحروب قبلية وجهوية ضمن مخططهم العام لنسف الفترة الانتقالية؟
أليست إزالة اسم السودان من قائمة العار انجازاً كبيراً؟
أليس فك طوق العزلة الدولية وعودة البلاد لموقعها الطبيعي ضمن أفراد الأسرة الدولية جهداً يستحق التقدير؟
أليست كفالة الحريات واحترام حق الجميع في التعبير ايجابية لنا حق الفخر والتغني بها؟ وغير ذلك.. كثير من الايجابيات التي يجب ألا نسمح لأعداء الثورة أن يحجبوها عن وعينا، ويحاولون إقناعنا بفشل المدنية، ويقدمون أنفسهم بأي صيغة كانت بديلاً ومخلصاً.
إذن من المستحيل أن تلتقي الثورة بالإسلاميين في أي تقاطع أو مفصل من مفاصل الثورة، ومن المستحيل تماماً أن يجتمع صيف الشرفاء بشتاء الإسلاميين على سطح الثورة، ولا تحت سمائها، إلا إن لم يكن الإسلاميين هم الإسلاميون أو الثوار هم الثوار.. فحين يساهم الإسلاميون في تتريس الشوارع فلا مجال لإحسان الظن أنهم يطالبون بتصحيح مسار الثورة في التراجع عن السياسات التي تخدم أهدافهم وتحقق مصالحهم ولا يطالبون بالمحاكمات الجادة والقصاص للشهداء ولن يطالبوا بتمكين لجنة ازالة التمكين من الوصول إلى كل مواقع التمكين والفساد.
إذن فلماذا يساهمون بالثورة والتتريس إن لم يكن الهدف هو اسقاط الثورة ونسف الفترة الانتقالية مما يحتم على الثوار الانتباه والحذر وعدم الانزلاق إلى تداخل الخنادق وإرباك المشهد بما يعيق الثورة عن المضي قدماً نحو غاياتها وأهدافها..

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..