محطات من ثورة أكتوبر

تحل اليوم الذكرى التاسعة والأربعين لثورة أكتوبر المجيدة. وكلما حلت هذه الذكرى العطرة يستبد بنا نحن أبناء الجيل الذي عايشها وشارك فيها حنين غامر لاستعادة أجواء تلك الفترة المشرقة من تاريخ بلادنا، والتي ترسبت أحداثها في دواخلنا، وتعمقت في وجداننا كالنقش في الحجر. فعلى الرغم من مضي ما يقارب الأربعة عقود من الزمان، لا تزال تتردد في أذهاننا، داوية ومنغمة، أصداء أناشيدها الخالدة ذات المعاني السامية، والمعبرة عن “فرحة نابعة من كل قلب ..”، وهدير هتافاتها وشعاراتها المنتقاة بعفوية (رغم ما في ذلك التعبير من تناقض)! إذ أنها شعارات صاغتها العبقرية الشعبية التي رسمت للثورة خطاها وأبدعت لها مسارها. غير أننا نلاحظ بأسف أن ذكرى ثورة أكتوبر بدأت تتعرض لقدر من التعتيم وعدم الاحتفاء، وكأنها تثير حساسية عند البعض من الذين يخشون انطلاق مارد الحرية والوعي والتحديث من قمقمه مجدداً كما حدث في تلك الهبة التاريخية.
في هذه الأجواء الأكتوبرية المجيدة المفعمة بعبير الثورة التي مهرها الشهداء بدمائهم الزكية، يتساءل أبناء الجيل الحديث عن كيف تحقق لثورة أكتوبر ذلك النجاح الباهر؟ ومن أين توفرت لجماهير أكتوبر تلك الإمكانيات التنظيمية الخلاقة، والقدرة على الوصول إلى الأهداف بتلك الكفاءة المشهودة، وفي ذلك الزمن القياسي؟
يلوح من وراء تلك التساؤلات شغف هؤلاء الشباب وتطلعهم إلى تحقيق طموحات الوطن في الوحدة الوطنية والتنمية والتقدم من خلال هبة شعبية يتوفر لها مثل ذلك الدفع والعنفوان الأكتوبري. من خلال هذا التناول لبعض محطات ثورة أكتوبر آمل أن ألقي إضاءات على هذه الموضوعات.
إن الفهم السليم لثورة أكتوبر ولمبادئها التي ترسبت بعمق في وجدان شعبنا يتم باستيعاب الخلفيات التاريخية لتلك الحقبة الزمنية. ونستطيع أن نوجز أبرز مكونات المناخ الفكري والسياسي العام المصاحب لتلك الفترة سودانياً وإقليمياً وعالمياً في النقاط التالية :
– فجر الاستقلال الوليد آمالاً عريضة وألهب تطلعات مشروعة نحو تحقيق نهضة اقتصادية واجتماعية طموحة .
– بروز جيل جديد في قيادة العمل الوطني بدأ في حمل الراية بعد جيل مؤتمر الخريجين، متميز بالوعي، وله الرغبة والمصلحة في إحداث تغييرات إيجابية في حياة المواطنين من خلال تنظيم الجماهير وتزويدها بالثقة .
– تبلور الوعي بوحدة البلاد، ومعالجة قضية جنوب الوطن حلاً سياسياً .
– نشأة التنظيمات الإقليمية المطالبة بالتنمية المتوازنة .
– بروز الحركة النسوية والدور الإيجابي للمرأة في المجتمع .
– انخراط الفئات الحديثة (العمال والمزارعين والمهنيين) في التنظيمات النقابية .
– ازدهار الحركة الثقافية والانفتاح على الفكر العالمي .
– انتشار الوعي السياسي بأهمية استدامة الديمقراطية كنظام للحكم قادر على تحقيق أهداف النهضة المنشودة ( لقد وئدت تجربة الحكم الديمقراطي بعد عامين فقط من الاستقلال).
وعلى المستويين الإقليمي والعالمي تميزت تلك الفترة ببلوغ حركة التحرر الوطني أوجها وتحقيق استقلال معظم الدول الإفريقية؛ وبروز حركة عدم الانحياز بقياداتها التاريخية ( تيتو – نهرو – جمال عبد الناصر) إثر مؤتمر باندونج؛ وتضامن السودانيين مع ثورة التحرير الجزائرية، ومع الشعب الفلسطيني، ومع الشعوب الإفريقية والآسيوية وقادتها الوطنيين من أمثال جومو كنياتا – باتريس لوممبا – نلسون مانديلا – كوامي نكروما – أحمد سيكوتوري – سيمورا ميشيل – هوشي منة – أحمد سوكارنو .
لقد ولدت ثورة أكتوبر من رحم النضال المتصل والتضحيات طوال سنوات الحكم العسكري من قبل نقابات العمال والمهنيين واتحادات الطلاب والأحزاب السياسية. ومن أبرز الأحداث التي أججت من روح الثورة لدي المواطنين:
? إعدام قادة حركة التاسع من نوفمبر 1959م العسكرية – المقدم علي حامد ورفاقه.
? إطلاق الرصاص على شباب الأنصار بميدان المولد بأم درمان في يونيو 1961م .
? تعذيب المواطن مصطفى حسنين بالأبيض .
? مقاومة النوبيين دفاعاً عن حقهم في اختيار الوطن البديل والتعويضات العادلة .
أما أبرز أحداث الثورة وهي في قمة عنفوانها بعد ليلة الحادي والعشرين من أكتوبر 1964م فيمكن إيجازها في الآتي :
? إطلاق الرصاص على الطلاب في الجامعة واستشهاد القرشي.
? موكب القضاة والمحامين من أمام مبنى الهيئة القضائية في الرابع والعشرين من أكتوبر، والذي شارك فيه أساتذة الجامعة ونقابات العمال والمهنيين. ولقد مثل هذا الموكب تحدياً سافراً للسلطة؛ إذ حوت عريضة القضاة والمحامين المحمولة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة إدانة لتصرف السلطة مع الطلاب، واصفة إياه بأنه أمر يستوجب المحاسبة، ومعاقبة المسئولين عنه حتى لو كانوا أعضاء بالمجلس الأعلى .
? إعلان الإضراب السياسي: في ذات التجمع المهيب أمام مبنى الهيئة القضائية، رأى المشاركون أن السبيل الوحيد لمواجهة القوة المسلحة هو عصيانها بالسلاح المدني الوحيد – الإضراب السياسي – ودعوا المواطنين إلى البقاء في بيوتهم وعدم العودة لأعمالهم إلا بعد سقوط النظام .
? تكوين جبهة الهيئات: لغياب القيادة أعلنت الهيئات المشاركة في موكب القضائية نفسها قيادة سياسية .
? حل المجلس الأعلى للقوات المسلحة في السادس والعشرين من أكتوبر .
? المظاهرة الجماهيرية الحاشدة في الثامن والعشرين من أكتوبر: حيث تدفقت الأفواج البشرية من كل صوب من العاصمة المثلثة متجهة نحو القصر بهتافاتها المدوية ” إلى القصر حتى النصر – دماء القرشي تنير الطريق – إلى الثكنات يا عساكر” . وفق رواية المؤرخ بكري الصايغ فقد شارك في هذه المظاهرة حوالي ستين ألف مواطن (وهو عدد كبير مقارنة بعدد سكان العاصمة في ذلك الوقت)، حصد منهم الرصاص 170 مواطنا، قدموا أرواحهم مهرا للديمقراطية والسودان الجديد. لم يسبق إطلاق الرصاص إنذار قبل استخدامه بتلك الكثافة وتلك الشراسة؛ لعل المبرر لذلك أنها كانت المحاولة اليائسة الأخيرة لإنقاذ النظام من السقوط أمام زحف الجماهير نحو القصر حتى النصر .
? ليلة المتاريس (21 نوفمبر): وهي الليلة التي سهرت فيها جماهير أكتوبر حتى الصباح تجاوباً مع النداء الذي تم توجيهه عبر الإذاعة بأن ثمة مؤامرة تحاك لسلب الشعب انتصاره بانقضاض القوات المسلحة على الثورة؛ على إثره خرجت الجماهير من كل حدب وصوب لحماية الثورة.. وأقفلت الطرق بمختلف المتاريس التي من شأنها إعاقة تحرك الآليات العسكرية. من الأمثلة على الحماسة الطاغية التي غمرت الجماهير على نطاق السودان، وأشعلت فيهم الغيرة على الثورة، وضرورة الذود عنها، أن حرك مواطنو كسلا قطاراً خاصاً للخرطوم حاملاً جماهير الشرق الوفية .
? الأحد المشئوم (6 ديسمبر) : وهو يوم الفتنة بين أبناء الوطن، والذي راح ضحيته عدد كبير من الأبرياء؛ وكانت بداية انطلاق الفتنة إثر تأخر وصول طائرة وزير الداخلية الأكتوبري السيد / كلمنت أمبورو، وإطلاق شائعات حول مصير الطائرة. وكان انطلاق تلك الفتنة مفارقة كبيرة، إذ أن ما حدث من صدامات دامية كان منافياً للتفاؤل العارم بسيادة روح التآخي التي ولدتها ثورة أكتوبر، التي شكل الحل السلمي السياسي لقضية جنوب الوطن أحد أهدافها الهامة. لقد استهدفت تلك الفتنة المساس بالوحدة الوطنية ونسف تطلعات ثوار أكتوبر لسودان جديد ينظر للمستقبل، ولا تجره سلبيات الماضي إلى الوراء دائماً .
بعد هذا السرد للمناسبات والأحداث الهامة في مسيرة الثورة، أود الإشارة إلى السمات الأساسية لهذه الثورة كما أراها :
? هي ثورة قادتها وأخذت زمام المبادرة في صنعها الفئات المستنيرة في المجتمع من أحزاب ونقابات عمالية ومهنية .
? جماهير أكتوبر الثائرة لم تلجأ للتخريب ولم تكن تحمل عداء للمجتمع، بل كانت في أشرس ظروف المواجهة مع النظام تتمتع بقدر كبير من الانضباط والحرص على الممتلكات العامة .
? لم تكن الظروف المعيشية من العوامل المؤثرة في قيام الثورة، حيث شهدت تلك الفترة استقراراً اقتصادياً نسبياً. لم تكن البلاد تعاني من آثار الجفاف والتصحر وتدهور البيئة الذي أصابها في عقود لاحقة؛ ولم تكن متأثرة بالظروف المعيشية والسكنية المتدنية التي ازدادت حدتها في العقود اللاحقة بسبب مفرزات الحروب الأهلية والنزوح؛ ولم تكن حدة الفقر والبلورة الطبقية الحادة والتهميش بنفس المستوى الذي بلغته في السنوات اللاحقة؛ ولم يعرف السودان حينها مثل معدلات التضخم العالمي والمحلي السائدة حالياً، ولا بطالة الخريجين، ولا الظروف السالبة المتعددة التي دفعت بملايين السودانيين إلى المنافي والشتات .
? ابتدعت ثورة أكتوبر وسائلها وأساليبها للتجاوب مع التطورات والأحداث المتسارعة، والتي كانت تتطلب التحرك الفوري ودون إبطاء؛ إذ لم تكن هناك قيادة مركزية تنتظر. وتم ملأ ذلك الفراغ بقيام جبهة الهيئات؛ وكان ذلك تطوراً طبيعياً، خاصة وأن الهيئات من اتحادات ونقابات هي صاحبة المبادرات، وأعضاؤها هم المنفذون لسلاح الثورة الفعال – الإضراب السياسي. ولدت الروح الأكتوبرية لدي المواطنين الشعور بالمسؤولية والثقة بالنفس وعدم انتظار التوجيهات بما ينبغي عمله. أعضاء الاتحادات والنقابات نفذوا الإضراب السياسي بمبادرات ذاتية استجابة للنداء العام بدون انتظار اجتماعات لجان أو قرارات جمعيات عمومية .
? الطبيعة المتعجلة التي تكونت بها جبهة الهيئات لم تمكنها بأكثر من توجيه عنايتها لمهامها الآنية المتمثلة في تكوين حكومة للفترة الانتقالية، واختيار رئيس للوزراء، والإشراف على ترتيبات انتقال السلطة. نتيجة لتلك الظروف التي نشأت فيها جبهة الهيئات، وانشغالها بالبرنامج المرحلي المؤقت، لم تتوفر لها الفعالية الكاملة لتبني برنامج صلب وواضح المعالم وطويل الأمد يعبر عن جوهر تطلعات جماهير أكتوبر وطموحات القوى الحديث .
? التقط ثوار أكتوبر أسلوب الإضراب السياسي الذي كان مطروحاً سلفاً وسط النقابات والاتحادات بشكل خاص، كأسلوب نضالي مدني فعال في المقاومة وإحداث التغيير؛ وهو الأسلوب الذي أعطى تنفيذه للثورة زخمها، وزود جماهير الشعب بالثقة النابعة من الإحساس بالتضامن .
? في مسار الثورة كان ثمة صراع ملموس بين القوى الحديثة التي تتطلع إلى تغيير جذري، لا يشمل نظام الحكم العسكري فقط، بل أيضا يشمل السلبيات التي صاحبت الممارسة الديمقراطية (رغم عمرها القصير)، وبين القوى التقليدية التي – وإن كانت ترغب في التغيير السياسي – إلا أنها تخشى التغيير الجذري؛ الذي يمكن الثورة أن تأخذ كامل مداها، وتواصل عنفوان اندفاعها وتحقيق غاياتها الكاملة .
? من أبرز سمات ثورة أكتوبر، توجيه العناية نحو أهم قضايا الوطن المتمثلة في الوحدة وتعميق الشعور بالمواطنة بين أبنائه. لذا كان واضحا للقوى الحديثة والفئات المستنيرة أنه ينبغي إيجاد الحل السلمي السياسي والجذري لقضية الجنوب، وكذلك إيلاء أولوية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية المتوازنة بحيث توجه عناية خاصة في المستقبل نحو التنمية في الأقاليم الأقل نمواً. وانعكست الروح الجديدة والاهتمام بجنوب الوطن في تشكيل مجلس وزراء حكومة أكتوبر والتي مثلت فيها جبهة الجنوب تمثيلاً حقيقياً بعدد من الوزراء الذين شغلوا وزارات سيادية هامة.

يقلم: عبد المنعم خليفة خوجلي
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..