
وما الموت إلا سارق دق شخصه، يسعى بلا قدم ويصول بلا كف، ولكنه دوماً يختار الأفاضل، ويرمي من الناس أعفهم، وهذا قدر الله النافذ في عباده، وكل مصيبة بعد رسول الله جلل، أي صغيرة. فقد غيب الموت خلال الأسبوع المنصرم أحد رموز الأدب والرواية في السودان، ألا وهو الأستاذ الروائي والباحث الحاذق، والأديب الأريب والقاص المتمكن من صنعته، إبراهيم إسحاق، وهو علم فوق رأسه نار، فقد ترك لنا إرثاً أدبياً وثقافياً رائعاً وجميلاً، وبعضاً من الأعمال الروائية التي هي غاية في العمق والحبكة السردية المتفردة، علاوة على بعض البحوث النادرة التي تتناول بعضاً من فصول وملامح تاريخ السودان الغربي على مر العصور، وسلط الضوء على جوانب الموروث الثقافي لمجتمع غرب السودان عموماً ودارفور على وجه الخصوص، بنظرة علمية فاحصة تلتزم الأسلوب البحثي الصارم، مع قدر من المعرفة بتلك المنطقة التي شهدت مولد إبراهيم أسحاق، رحمه الله. فقد ولد في قرية ودعة بدارفور ودرس في مدرسة الفاشر الثانوية، ثم بمعهد المعلمين العالي. وعاش كغيره من أبناء القرى في تلك الحقبة المبكرة من منتصف القرن العشرين. ولذلك من الطبيعي أن يلم كاتبنا الراحل بالروايات الشفوية والأساطير السائدة فيوظفها بأجمل طريقة ممكنة في أدبه وقصصه القصيرة مستلهماً مستجدات العصر مقروناً بما حاز الراحل من معارف غزيرة خلال اطلاعه على الآداب العربية والإنجليزية والمترجمة من اللغات الأخرى، فحاز معرفة واسعة واتقن مهارة السرد وتقنيات البحث في الإنسانيات وتمرس في الترجمة والتأليف حتى صار رقماً لا يمكن تجاوزه في الساحة الثقافية السودانية والعربية بشكل عام.
وإن كان الطيب صالح قد تميز بأنه تناول مجتمع السودان النيلي في رواياته وقصصه، بأسلوب وصف بالواقعية، فإن إبراهيم إسحاق، كما قال عنه الطيب صالح نفسه، استطاع أن يسبر غور مجتمع غرب السودان حتى أخرج للناس أدباً راقياً عن منطقة تكاد تكون مجهولة، ليس لدى الأجنبي فحسب، بل حتى عند أهل السودان الأوسط والشرقي. وكلا الكاتبين ينتميان إلى فترة ما بعد الكولونيالية، أي حقبة ما بعد الاستعمار، وهي تلك الحقبة التي عكف فيها أبناء الدول، التي تحررت من الاستعمار الأوروبي، على تراثهم وثقافتهم، وطفقوا ينظرون إلى آثار تجربة الاستعمار على مجتمعاتهم، واستفادوا من أدوات تلك الحقبة في دراسة مجتمعاتهم عبر الأدب والرواية. وتشمل هذه المجموعة كوكبة من الروائيين من أمثال شينوا أتشيبي في نيجيريا، وغابريال غارسيا ماركيز في أمريكا الجنوبية وغيرهم كثر من الروائيين في المشرق والمغرب.
إن كاتبنا الراحل إبراهيم، رحمه الله وغفر له، قد كان من أهم أركان الحركة الروائية في السودان، وأحد رموزها على مستوى الوطن فما من محلل أدبي أو ناقد إلا وقف على تجربة إبراهيم إسحاق لعدة أسباب: أهمها مقدرته الكبيرة على السرد واستخدام أدوات الكتابة وفنونها وهو يصور مجتمع القرية في دارفور، الذي لم يسبق لأحد أن تناوله في أسلوب قصصي، حشد له الكاتب كل مقدرته، ومعرفته، وأسلوبه الراقي، وموهبته المتميزة، مستفيداً من لهجته العامية والدارجة في الحوار بين شخوص الرواية، ليعبّر خلالهم عن فكرته، ورؤيته للأحوال، والتحول الذي تحمله عناصر قادمة من البندر في الغالب، فجاءت قصصه في قالب متفرد، يعكس هموم إنسان دارفور وقضاياه من كل الجوانب الاجتماعية، والثقافية وربما الأخلاقية، والاقتصادية، حتى لكأنك ترى الأشخاص وهم يقومون بأدوارهم في الرواية رأي العين، فتسمع كلامهم، وتحس بدواخلهم، من خلال المقدرة الإبداعية لإبراهيم إسحاق الذي لم يترك شاردة أو واردة إلا سجلها بكل تفاصيلها، مضيفاً إلى ذلك رونقاً وألقاً بأسلوبه الرائع، الذي يجذب القارئ للمتابعة، فكل مشهد يفضي إلى الآخر دون أن تشعر بالملل أو يضطرب إحساسك بأحداث الرواية وشخوصها وظروفهم.
إبراهيم إسحاق الذي عاش طفولته الباكرة في قرى دارفور ووديانها، و سهولها كسائر أبناء القرى في تلك المنطقة الغنية بتنوعها البيئي، والثقافي، واللغوي، والاثني، إن جاز التعبير، وبما أنه صاحب موهبة فقد اختزن تلك التجارب أيضاً، وبعدها شد الرحال إلى العاصمة لتلقي العلم فحدث تحول كبير في بيئته الثقافية، ولكنه لم ينقطع من بيئته الأصلية ولم ينس اللهجة وتلك الممارسات الثقافية والاجتماعية الشعبية التي شكلت وجدانه في سن الطفولة وظلت تأثر على أسلوب كتابته بشكل كبير، أشد ما يكون وضوحاً في فضيحة آل نورين، وحدث في القرية، وبعض قصصه القصيرة التي سجل فيها كل تفاصيل الحياة هناك حتى أسماء الدواب والأطعمة والطيور والهوام والأشجار ناهيك عن الأماكن والأشخاص مما أضفى على أعماله نوعاً من الواقعية كتلك التي عند الطيب صالح.
رحل إبراهيم إسحاق، وبفقده حدثت ثلمة في الأدب السوداني يصعب سدها، فهو واسع الثقافة، فما زرته في داره في الرياض سابقاً، إلا ألفيته ممسكاً بكتاب أو مجلة، أو أنه يناقش فكرة أو كتاب أو مقال مع جلسائه. نسأل الله الرحمة والمغفرة للفقيد وحسن العزاء لأسرته الكريمة وأصدقائه.
محمد التجاني عمر قش
رحم الله ابراهيم اسحق وغفر له وأدخله فيح جناته،،
(وبفقده حدثت ثلمة في الأدب السوداني يصعب سدها)
أحسنت يا قش قولاً فقد أحدث رحيله ثُلْمَةً لا تُسَدُّ: أي خَسارةً لا تُعوَّض، أو فراغاً لا يُملأ، أو شرْمةً لا تُلْحَمُ