
تعتبر إتفاقية السلام التي وقعتها الحكومة الإنتقالية و الجبهة الثورية في جوبا أول إتفاقية تخاطبالأسباب التي أعاقت عملي
ة التحول الديمقراطي و مسيرة الحكم في السودان بشكل واضح ، عليإمتداد تاريخ البلاد الحديث مقارنتاً بكل الإتفاقيات ال
تي وُقعت كمحاولات سابقة لصناعة السلام فيالسودان .
إلا إن عملية تطبيق البروتوكولات الخاصة بإقليم دارفور قد تواجهها بعص الصعوبات والتحديات ، رغمالحاجه المُلّحة
لإيقاف الحرب في الإقليم و إعادة ترتيب حياة النازحين الذين يعيشون أسوء الظروف فياكثر من مئة من معسكرات النز
وح في أرجاء الإقليم، و هي العملية التي تتطلب ترتيب إعادة النازحينإلي اوطانهم الأصلية او تسهيل عملية توطينهم ب
صورة طوعية في أماكن أخرى يفضلون العيش والبقاءفيها .
اقليم دارفور بطبيعة تركيبته الديموغرافية المتناقضة وثقافاته المتعددة المتباينة وتأثيراتها علي طبيعةالحياة العامة ، هو ف
ي حاجة إلي إفراد مساحة خاصة من التفكير والتخطيط من أجل تفصيل الحلولعلي قدر ما تتطلبه معطيات الواقع هناك بع
يدًا عن الفرضيات و التعميم .
رغم أهمية إيقاف أصوات السلاح إلا إنه قد تستعصي الامور علي الحكومة الإنتقالية بمكوناتها الجديدةالتي تضم معظم
حركات الكفاح المسلح في الاقليم في أن تحرز تقدمًا ونجاح في إدارة ملفات السلامالمجتمعي دون أن تخاطب و تنطلق م
ن منصة الاسباب الرئسية للصراع التي تتمثل في غياب مشروعاتالتنمية في الاقليم .
أي إستراتيجية تتجاهل تحليل الأسباب الرئيسية للصراع و تختزل أسبابه في شكلها البسيط العربي-
إفريقي او تبحث عن الحلول بمناصرة مجموعة ما علي حساب المجموعات الاخرى لايمكنها أن تنجح فيبسط الأمن ولا ت
حقيق السلام المطلوب ، و قد تكون (مسحًا لي القطران علي الصوف ) كما يقول أحدالامثال الشعبية في دارفور .
بروتوكولات مسار سلام دارفور التي وقعتها الإدارة الإنتقالية مع معظم حركات الكفاحالمسلح في جوبا كجزء من مشر
وع إتفاق تحقيق السلام الشامل بعد ثورة ديسمبر ٢٠١٩ ، علي أهميتهاكخطوات ضرورية لابد منها لإيقاف الحرب في
الإقليم ، إلا إنها لن تخاطب جذور الصراع في الإقليمبشكل منهجي ، ولن تحدد الترتيبات و لا الموارد المالية المطلوبة
بشكل كافي لإيجاد الحلول النهائيةلمشكلة النزوح التي خلفتها الحرب و التي استمرت الي ما يقارب العَقدين من الزمان .
رغم إن هذهالبروتوكولات فَصّلت عمليات إقتسام السلطة والثروة و وتحدثت عن ترتيب شئون النازحين وأقترحتإيكال تن
فيذ هذه المهام لمفوضيات متخصصة ، إلا أن بعض المؤشرات الحالية بالإضافة إلي تجاربالماضي تشير إلي ان تلك ال
خطوات قد لا تنجح في ظل غياب التخطيط الاستراتيجي السليم و ندرةالمال .
و إذا ما أخذنا في الاعتبار أهمية الاسباب الجذرية للصراع في الإقليم ، سنصل إلي إن دارفور فيامس الحاجه إلي مراكز
الدراسات الإستراتيجية والخطط التنموية بعيدةُ المدي لرسم إمكانيات إخراجسكانها من إختناقات الإعتماد علي القطاع الو
احد للإنتاج (القطاع الزراعي) ، لأن هذه المفوضيات وبروتوكولاتها لا يمكنها إن تعمل بفعالية دون الإهتداء بخطط إقت
صادية تنموية مُحكمة لمعالجة تلكالصراعات ما بين مجتمعات كَتبت لها الأقدار و أجبرتها علي التنافس والصراع حول ذ
اك القطاعالإقتصادي الوحيد و الذي يحمل في دواخله بذور التناقض (الزراعة و الرعي ) .
اقليم دارفور في حاجة الي تحولات إقتصادية كبرى (Economic
Transformations) ومقاومةالمستحيل لصناعة و تنمية قطاعات إضافية اخرى كالصناعة والتجارة ، من أجل تخفي
ف الضغط عليالقطاع الزراعي الواحد المُتنافس عليه وهو الشي الذي يحتاج إلي دفعة قوية من الإستثمارات والإنفاقالعام
لبناء الإنشاءات التحتية هناك في الإقليم ، قد تفوق تقديراتها المالية أضعافًا تلك التصوراتوالتقديرات التي إعتمدتها بروتو
كولات جوبا .
أي ان الوضع في الإقليم في حاجة إلي اختراقات تنموية كبرى في مجالات توفير الطاقة الكهربائيةوإستخراج المياه و بنا
ء الطرق والجسور و توسيع خطوط سكك الحديد ومهابط الطيران لتأسيس البيئةالمناسبة لنشوء القطاعات الاخرى .
التفسيرات الإقتصادية لظاهرة الصراع في الاقليم يجب أن تكون هي نقطة البداية للبحث عنالحلول، إلا ان ذلك لا ينفي أ
3
همية الحاجة الي الإسراع في وضع و ترتيب التدابير الأمنية المطلوبة لمنعحدوث الاحتكاكات ما بين اطراف النزاع او
علي الأقل التخفيف من حدة الصراع إلي حين الوصول إليالحلول الدائمة (Durable Solutions ) .
و في هذا الجانب نجد أن بروتوكول الترتيبات الأمنية الخاص بدارفور أقّر تكوين قوة مشتركة لحفظالسلام قوامها ١٢ ا
لف جندي لتُوزع في أنحاء الاقليم لتُوكل إليها مهمة حفظ السلام في دارفور، وهيفكرة جيدة و عملية من حيث المبدأ و ت
شير معظم التنبؤات الي إمكانية نجاحها الي حد ما، إلا إن هذهالتنبؤات قد لا تخلو من بعض التحفظات التي تتعلق بالتح
ديات التي يمكن ان تواجه مهام هذه القوة عملياً ، بحكم إنها إعتمدت في تكوينها علي اطراف الصراع نفسها ( الدعم ال
سريع والحركاتالمسلحة) اذا ما إستثنينا القوات المسلحة والشرطة .
اما الملاحظة الأخيرة والأهم ، نجد إن تلك البروتوكولات لن تضع موجهات واضحة المعالم لتُوضحو تُحدد التكتيكات ال
لازمة و الوسائل المطلوبة لإعادة النازحين الي قُراهم او خلق البيئة المناسبة لإعادةتوطينهم و إستقرارهم ، و لا سيما في
ظل وجود بعض الأطراف التي لم توقع أصلاً علي هذهالبروتوكولات كحركة تحرير السودان فصيل عبد الواحد النور
و نشاطها العسكري في الميدان .
عملية إيجاد الحلول النهائية لمشكلة النزوح في دارفور أيضًا قد تصاحبها بعض التعقيدات الذاتية التيتتعلق بالنقلة الحضر
ية التي حدثت للنازحين انفسهم والتي قد تقودهم إلي إعادة ترتيب او توسيعنطاقات خياراتهم والمفاضلة فيما بين الرغبة ف
ي العودة الي القُرى او البقاء بالقرب من المدن .
و هذه أحد الإيجابيات التي أفرزتها ظروف الحرب والنزوح والتي يجب مراعاتها في عملية الترتيبوالتخطيط لصياغة ح
لول مشاكل النزوح ، وهو الشي الذي يقود إلي إحتمال أن يُفضل كثير منالنازحين عملية التوطين في معسكراتهم نفسها ا
و محاولة الإندماج في المدن الكبرى حيث سهولةالوصول إلي الخدمات الأساسية مثل التعليم و الصحة و وفرة فرص الع
مل بدلاً من العودة إلي مواطنهمالأصيلة ومواصلة الحياة البدائيه من جديد .
في حين أن الأوضاع والظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد ما بعد ثورة ديسمبر٢٠١٩ ، قد تجعل من الحك
ومة غير قادرة علي تمويل برامج إرجاع النازحين الي مواطنهم او تقديمالمساعدات الإنسانية اللآزمة التي تتطلبها عمل
يات العودة و التوطين ، وهو الامر الذي يتطلب الإستعانةبالمجتمع الدولي و فتح مجالات إنسانية واسعة
(Humanitarian Spaces )
لعمل المنظمات الإنسانية ووكالات الأمم المتحدة لتقديم المساعدات الإنسانية و المشورات الفنية لإنجاز تلك المهام .
هذه الملاحظات لن تقلل من أهمية او قيمة البروتوكولات الخاصة بدارفور ، والتي بلا شك تُعد إنجازاتعظيمة و جديرة با
لإشادة والتقدير ، ولكنها كملاحظات تعتبر ضرورية ويستحسن مراعاتها لمواجهةالتحديات التي يمكن ان تواجه تطبيق ت
لك البروتوكولات مع إعتبار أهمية المرونة في تطبيقها و تعزيز عمليات المتابعة والمراجعة و التعديل عند الحاجه لتوا
كب طبيعة فرضيات الواقع علي الارض هناك فيالإقليم .
آدم تيراب أحمد
باحث ومحلل اقتصادي
[email protected]
.