
بلادنا في خطر داهم وعظيم فقد بلغ السيل الزبى وبلغت الروح التراقي وضاق الحال بالناس بحيث لم يعد ينفع أسلوب التسويف والوعود الكاذبة والأحاديث الممجوجة حول الكيزان والشيطان .. الفوضى بلغت مداها والخشية أن ينفرط التماسك الحالي إلى فوضى عارمة لا تبقي ولا تذر فقد أصبحت أعمال السلب والنهب في وضح النهار و” على عينك يا مواطن ” وذلك لغياب الدولة وغياب المسؤول الشجاع الذي يواجه المشكلة ويواجه الشعب .. وحتى الذين خرجوا علينا من الوزراء مؤخرا كان حديثهم خارم بارم .. فلا خطة بعيدة المدى ولا برنامج .. فكشفوا أنها حكومة ” رزق اليوم باليوم ” ..
نعم ، لا شك أن الحكومة الانتقالية ورثت دولة منهارة ومحطمة من مخلفات الحرامية يصعب ترميمها مع أن ذلك ليس بالمستحيل فهناك أنظمة نجحت وورثت ما هو أسوأ من تركة حكومة الإنقاذ البائدة خاصة أن هؤلاء الورثة كانوا يعلمون جيدا حجم الموروث والتركة الثقيلة .. ولا أرى في ذلك حجة لهم تعفيهم من مسؤولية الفشل حيث كان ينبغي لكل من أن أراد أن يتصدى لتحمل المسؤولية أن يكون بحجم ذلك التحدي..
كما أرى أن من سفه القول وطيشه المطالبة بإعادة الحال لما كان عليه ” الوضع الذي تركنا فيه الكيزان ” لأنني على يقين لو أن حكومة الكيزان الحرامية استمرت لكان الوضع أسوأ بكثير مما هو عليه الآن، لأن النظام البائد وصل مرحلة الانهيار الفعلي مع أنه كان يتظاهر بالتماسك. كما أنني على يقين لولا أن نظام الإخوان المسلمين تأكد له استحالة الاستمرار والإصلاح لما ترك السلطة ولو على جثث كل أهل السودان وبعد الوصول لتلك القناعة كان كل ما يهمهم سلامة أرواحهم وأرزاقهم المنهوبة .. ولذلك كان التغيير أشبه بالتوافق بين المجرمين من العسكريين والأمنيين ليحكم هؤلاء وينجو أولئك وقد تحقق للطرفين ما أرادوا فعسكر الإنقاذ يحكمون وقليل من بغاة الإنقاذ في السجون ذات الخمسة نجوم !! وذلك حتى حين .. أهناك هبوط أنعم من هذا ؟؟؟ . .
دعوت في مقالي السابق الرئيس حمدوك للرحيل هو و” عيال أمريكا وربائب إسرائيل ” الذين حسبهم الشعب كعيال ” أب جويلي الكمبلوا وعرضوا ” فإذا بهم كسراب بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا .. وتوقعت في المقال نفسه بحدوث احتجاج ضد الوضع الحالي وهو ما يحدث الآن وإن كان محدودا لكن يمكن أن يتسع .
نحن لا ندعو لإسقاط النظام الديمقراطي أو ندعو عسكر السجم والرماد للتدخل والقيام بانقلاب فمصيبة الوطن أسها وأساسها منهم وفيهم .. لكنا ندعو لحكومة ” أولاد بلد ” يعرفون كيف يحكمون ” .. أما أن يجيء للحكم رواد مقاهي أميركا ودول أوربا وبعضهم كان لا شغل ولا مشغلة له، ولذلك نرفض أن يستغفلنا البعض بأنه جاء من الغرب ليتسلم أعلى المراتب والمناصب بلا مؤهل حقيقي ولا تجربة معروفة ولا خطط واضحة ولا برامج معلومة ولا نضال فعلي .. وغدا يرحلون جميعا إلى البلاد التي جاءوا منها ولن ينتظر أي واحد منهم ليعيش المعاناة التي خلقها مع المواطن المسحوق.
نحن البلد الوحيد الذي يدمر اقتصاده عبر مطاره الدولي وهو هذا المطار اليتيم ” المعشكب ” الذي لا يشبه أي مطار في العالم ” وللمرحوم الكاتب القدير الطيب صالح مقال قديم أجاد في وصفه..
هذا المطار هو مأساة السودان وهو قناة التهريب الأولى والشاهد الأبرز على فساد الأجهزة النظامية .. وسأحكي لكم حكاية تؤكد أن البلد ” هاملة ” .. كنت مغادرا قبل أشهر خارج السودان وفي صالة المغادرة الأولى بمطار الخرطوم جلس بجانبي شاب في مقتبل العمر .. يبدو من سيماه أنه من الأرياف ويلبس جلابية عادية جدا وليست كتلك التي تغني لها المغنيات الفارغات ” الجلابية .. بيضاء ومكوية ” وطاقية وشبشب .. ليس عليه علامات الدخل المرتفع .. سألني .. كم المبلغ المسموح بحمله مع المسافر للخارج ؟ قلت له ما أعرفه أن المبالغ المسموح بها في المطارات لا تتجاوز عشرة آلاف دولار .. قال لي إن معه أكثر من ذلك !! فطلبت منه أن يتأكد أكثر من وضعه…. ثم حكى لي أنه مسافر إلى دبي وأنها المرة الأولى التي يسافر فيها ويغادر السودان !!.. تعجبت كثيرا .. وقلت من أين لمثله وهو يغادر لأول مرة هذا المبلغ ؟؟ أليس من الغريب أن يحمل شخص هذا المبلغ في أول مرة يسافر فيها ..؟ ولم أجد تفسيرا لذلك إلا أن هناك من يقوم بترتيب سفر أمثاله وهم كثر ويقوم بتوزيع مثل هذه المبالغ عليهم ثم يجمعها منهم بعد وصولهم ويشتري بها بضاعة يحملونها عند عودتهم مثل الموبايلات والكريمات والملابس المستعملة التي تباع بتراب الفلوس .. وبالطبع لا يمكنني التأكد مما إذا كان المبلغ في جيبه أو حقيبته أو أن أحدا سيقوم بتسليمه له في مكان ما في مطار الجن وتوقعت أن يتم حجزه أو حجز المبلغ لكنني فوجئت به داخل الطائرة.
في الفيسبوك أقرأ يوميا عدة إعلانات تعرض تحويل مبالغ للسودان وترفع سعر الدولار لأرقام خيالية تتجاوز سعر السوق الأسود في السودان بكثير مع عبارة ” تسليم دبي ” .
في الأخبار نسمع كثيرا عن القبض على مهربين للذهب وكله لدبي تجارا كانوا أم أفرادا وكل هذا يتم عبر مطار يمكن لعشرة أمنيين وطنيين حراسته بحيث لا تخرج منه نملة وهي تحمل حبة قمح.
إذا أردتم إصلاح الاقتصاد فأغلقوا الطريق إلى دبي لمدة ستة أشهر فقط .. وهي مدة كافية للوقوف على موضع الخلل .. لو كنت المسؤول لأوقفت حتى الطيران مع الإمارات والوارد منها بحرا عبر جبل علي .. ليكتشف الناس أن دبي هي من يدمر السودان فهي مركز المضاربات الدولية لا غير .. وقد كانت دبي محطة النظام البائد الرئيسة لتهريب الأموال المنهوبة وفيها حط رحاله أو مرّ عبرها كل دولار خرج من السودان وما زالت دبي تمارس نفس الدور .
دبي هي التي تملأ أسواقنا بكل هذا الغثاء وسقط المتاع من الموبايلات المضروبة والمسروقة التي يعاد تغليفها وتصديرها للسودان والألبسة المستعملة المغسولة التي تعاد تعبئتها في أكياس وغيرها من الكريمات والمواد التجارية التي لا تنفع ولا تفيد .
ورد في الأخبار قبل يومين أن الإمارات هي أكثر يلد عربي اشترى ذهبا في العام 2020 .. وبالطبع فهذا الذهب كله سوداني .. لكن معظمه ذهب للإمارات عن طريق التهريب وذهب معه كل ما يمكن أن يعود للسودان بفائدة أو عوائد.
إن الوضع الحالي في السودان وصل مرحلة انهيار اقتصاد الدولة ولن ينفع إصلاحه بالترقيع ولذا يتوجب ولمدة ستة أشهر فقط ، منع السفر جوا للإمارات أولا ووقف الآتي منها بحرا ويلي ذلك مرحلة إغلاق الحدود البرية كافة لمنع التهريب والتجارة التي لا عائد منها مع اريتريا وإثيوبيا وتشاد وجنوب السودان ومصر ووقف استيراد جميع المواد غير الضرورية وأولها الكشاكيش الصينية والمصرية ” حتى تلك التي يجلبها المسافرون كأفراد ” والفواكه وخلافه وليقتصر الاستيراد على الأدوية والوقود والدقيق ومدخلات الإنتاج والدواء وذلك حتى يستقر الوضع وذلك ما تقوم به كل الأنظمة المسؤولة .. وسنرى كيف سيستقر الدولار نسبيا .. هذا أو الطوفان.
في البريد :
الحكومة القادمة سيكون ميراثها أسوأ من ميراث هذه الحكومة من النظام البائد .. فإن لم تكن لهم رؤية واضحة وسريعة للحل وإيجاد مخرج مما نحن فيه، فعليهم ألا يورطوا أنفسهم .. وعلى الأقل هم الآن ” يعرفون البير وغطاها ” .. ولينتبهوا فالمثل السوداني المشهور يقول ” الفي البر عوام ” .. وحتى ” لا يقف حمار الحكومة في العقبة ” ..
أبو الحسن الشاعر