أهم الأخبار والمقالاتمقالات ثقافية

الكمَّامة!! طِبتَ وبَرِيّة سلامةْ يا وطني

      رقية وراق

احتجتُ إلى بعض وقت، وربما بعض إذعان، حتى تمكنتُ من تبني عادات الملبس اليومي الجديدة، بعد هجرتي إلى كندا. الشتاء الجليدي الجبّار هنا يضطرك إلى ارتداء طبقات مصفوفة من الملابس: القميص أو البلوزة والبنطال أو قل البنطالين، الكنزة الصوفية أو القطنية، وفوق كل ذلك معطف البرد السميك، بملحقات ضرورية هي شال يلتف حول العنق مرتين أو ثلاث وقبعة وقفازين. أما الأقدام فتحميها جوارب ثقيلة كذلك، داخل الأحذية الجلدية ذات الأعناق الطويلة والأنـعُل الغليظة اتقاءً للانزلاق الغادر في الطرق الجليدية.

لم يزعجني في كل تفاصيل هذا الزِي الشتائي شيء مثلما أزعجني أمر القفازات والجوارب. ولأبدأ بالقفازات وسبب بُغضي لها آنذاك، وقد ظللت أتجنّبها في البداية وأتصوَّر، مخطئةً بالطبع، أن بمقدوري تجاهلها، والاكتفاء بإخفاء كفيَّ في جيبَي المعطف فحسب.

في المرات الأولى التي كنت أزُجُّ فيها بيدي داخل القفازين كنت أفقد بعض متعلقاتي في كل مرة. مرةً فقدتُ مفتاح المنزل وورقةً ماليةً من فئة العشرين دولاراً، عُدْتُ أدراجي فعثرتُ على سلسلة مفاتيحي ترقدُ مثلجةً على الطريق واستعوضْتُ ربي في نقودي وازددتُ نفوراً من هاتين القطعتين الغريبتين على هندامي، المتسببتين في عدم تركيزي واضطراب سيرِ يومي.

أما الجوارب فحديثُها حديث، سئل أحد معارفنا بالمدينة هنا، عن طول المدة التي قضاها في كندا، فأجاب بظُرفٍ معهودٍ ، بلهجته المصرية:

أنا بقى لي خمستاشر سنة ف كندا، نصها لبس وخلع في الجِزَم والشُرّابات!

الجوارب الشتوية سخيفة للغاية، يتطلب ارتداؤها جلوساً وصبراً، ويأتي في صحبتها بالضرورة، ذو العنق الطويل إياه، بفتحات ورباطين يلتفان حولها حوالي الست مرات على الأقل حتى ينتهيان في شكل ربطة مُحكَمة تُعقد في أعلى الحذاء مخافة أن ينحل أو ينجر في وحل الثلوج، او أسوأ من ذلك، أن تتعثر عليه وتسقط على وجهك، أو أسوأ وأسوأ من كل ذلك .. ماذا؟ نعم.. ما حدث لي، أن انحشر رباط الحذاء بين إصبعين في قدمي مرة أثناء سيري يوماً على الطريق فوق الثلوج.

لو أن هناك من يظن أن تلك العقدة المدببة في طرف الرباط، والتي لا مهمة لها سوى تسهيل دخوله في ثقوب الحذاء، لو ظننتم أن تلك العقدة أمر لا يؤبه له و لا يستحق الاهتمام، فصدّقوني، إن استقرت بين إصبعي قدم أحدكم ، فوق الأرض الجليدية فلن يكون  لديه من خطب يهمه سوى الوصول إلى مكان دافئ، وخلع الحذاء وسل ذاك الرباط اللعين المتجمد بين إصبعي القدمين.. رحمتك يا الهي!

بعد عقودٍ مهجرية، أجدني قد التزمتُ بالكامل بثقافة ملابس الشتاء الحازمة، وإن أدخلتُ لمسةً وطنيةً خاصة هنا وهناك، فشال دمور سوداني وآخر هو (قرمصيص) أفراحنا لا غيره قد وجدا طريقهما للالتفاف حول عنقي بفخر دفئ خلال مواسم الشتاء الأخيرة .

في بداية جائحة كوفيد-١٩، كنتُ في كل مرة أتحدث فيها إلى الأهل والصديقات والأصدقاء بالوطن، وأُلِح عليهم في ضرورة الالتزام بقطعة الملابس الجديدة: قناع الوجه، كنت أراجع نفسي وأتذكر تفاصيل رحلتي مع الهندام الثقيل، فتخف نبرة إلحاحي وتتحول إلى رجاء مُفعَم بالتفهُّم. أعرف أن القناع غريب علينا، وأن كثيرين لا زالوا يتندرون على من يضعونه في الشارع أو أماكن العمل رغم أهميته، ولكن الأخبار تقول إن الكثيرين جدا قد اعتادوا على الالتزام بهذه القطعة الورقية أو القماشية مؤخرا، وإنهم يُحكِمونه ليغطي الفم والأنف كوسيلة احترازية فردية ومجتمعية. ليت أهل الإبداع يجعلون التوعية بأهمية كل هذه الفروض الاحترازية الجديدة أمراً سلساً لا تيسّره وسيلة كما يُيسّره الأدب والفن. من جانبي، لا مانع لدي في الاسهام في التسلية والتسرية بسرد قصص لا تنتهي مع غريمي الجليد، لو شئتم، فقط دعونا نلتزم بإجراءات السلامة الضرورية، ودعونا نخفف من صعوبات هذه الفترة المعقدة، إلى أن تضع “كورونا” اللعينة أوزارها.

[email protected]
يناير 2021

 

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..