
لم يفق الناس من صدمة التطبيق الفج لمنهج المحاصصة الحزبية والجهوية في الحكومة الجديدة التي تم الإعلان عنها مؤخرا، حتى خرج أحد قيادات الحركات المتمردة سابقا، بعد أن أسندت إليه واحدة من أهم الوزارات التي تعتبر بالنسبة لأي حكومة ورئيس وزراء يتحلون بفضيلة المسؤولية والجدية أداة أساسية وحيوية لمعالجة الأزمة الاقتصادية الحالية، ليعلن بمنتهى الدقة والوضوح أن السبب الجوهري الذي دفعه لقبول الوزارة، ضمان “دفع الأموال لتنفيذ اتفاقيات السلام”، وتمهيد الطريق أمام حركته ومشروعها لاكتساح الانتخابات وحكم السودان.
لو كانت المحاصصة في الحكم بين كيانات وعقليات متزنة راشدة ذات كفاءة وأهلية، لجاز القول بأن تقاسم المناصب والأجهزة الحكومية قد يكون ضربا من العمل الجماعي والتنوع الصحي الذي يرتجى منه تحقق فائدة التعددية والحيوية وتوسعة دوائر المشاركة في إدارة الشأن العام وصناعة القرارات والسياسات الوطنية.
لكننا نخشى أن نكون أمام محاصصة تقوم على تصورات ومفاهيم همجية وبدائية للغاية تعود للعصور الوسطى وقيم القبيلة وتحالفات المشايخ والسلاطين وأمراء العساكر، يعلن الوزير فيها قبل أن يجف حبر مرسوم تعيينه أنه إنما جاء إلى الوزارة لخدمة مشروعه الحزبي الخاص، وبناء الأسس المستقبلية لتمكين جماعته من حكم البلاد.
رجل الدولة الجدير بالمواقع القيادية يستهل عمله بالكشف عن رؤيته وخططه لتحقيق الأهداف في مجال الصحة أو الاقتصاد أو التعليم مثلا، ومعالجة المشكلات وأوجه القصور، والارتقاء بالأداء وتطوير منظومة العمل والإنتاجية، أو على الأقل يلوذ بالصمت ريثما تتضح للناس حصيلة جهده وعمله، ولا يحتفل بالوزارة الجديدة من خلال حفل خطابي مرتجل على عجل أمام الأتباع في مشهد يستدعي إلى الذهن صورة زعيم قبيلة بدائية أو عصابة من قطاع الطرق يحتفلون سويا بالأسلاب والغنائم ..!
إن الوظائف العامة في الدولة ابتداء من أبسط وظيفة إلى الرئيس، لها هدف جوهري وحيد هو خدمة المصلحة العامة لسائر المواطنين، أما خدمة الأجندة والطموحات والمخططات الشخصية والحزبية، فهي أهداف لا علاقة لها بالوظيفة العمومية ومن غير المقبول أن تتحول المناصب الوزارية إلى أداة معلنة لتحقيقها.
ويا ليتنا علمنا لهؤلاء الإخوة مشروعا فكريا أو سياسيا يبشرون بعضهم باستغلال الوزارة لخدمته، ولو من نوعية المشروع المتداعي الذي تهاوت أركانه بعرابه وصانعه شيخهم الراحل، الذي لم يكن مخططه قبليا ولا جهويا في أهدافه الظاهرة أوالخفية بل أمميا، فهؤلاء الإخوة لم نقف لهم على مشروع غير العجلة إلى الحرب والأطروحات الجهوية غير القومية.
إن الدولة التي تفكر أحزابها وكياناتها “الثورية” وتعمل بطريقة عصابات المافيا لن تتقدم خطوة للأمام، فشتان ما بين عقلية المافيا التي لا تعرف غير الخداع والقتل والتدليس والكذب وجمع أكبر قدر ممكن من الأموال والمكاسب والتستر على كافة أفراد العصابة وأفعالهم المشينة غير القانونية بل والدفاع عنها حتى الموت، وبين عقلية قادة الأحزاب والتنظيمات في الدول المتقدمة والناجحة.
من المؤسف أن تنضم “الكيانات الثورية” من الخلفيات الفكرية اليسارية واليمينية على حد سواء إلى حفلات المجون السياسي والإداري المتعالية فوق القانون والمنطق والعقل والقيم والتجربة الإنسانية، التي اشتهر بها نادي حكام الخرطوم، انضمام بأفعال فاضحة في وضح النهار وعلى رؤوس الأشهاد من قبيل شراء عقارات بخمسين مليون دولار، والإعلان بملء الفم عن توظيف أجهزة الدولة لتحقيق المصالح الشخصية وخدمة الأجندة الحزبية.
إننا نأمل أن تكون هذه الهفوة نابعة من عفوية وحسن نية الإنسان البسيط الذي لم تصقله الخبرات وسنوات التدرج في سلم إعداد رجال الدولة، فاحتفل بما يظنه إحقاقا لحق المظلومين والمهمشين في الأرض بهذه الطريقة غير الموفقة وخانه التعبير والإخراج ، على ذات طريقة أخ له من قبل جلب أمهاته إلى مكتبه الرسمي بالوزارة في احتفال تلقائي بسيط لا يخلو من سذاجة في التعبير عن فرحته بالمنصب واعتزازه بوالدته وأسرته ، ثم كان منه بعد ذلك أداء لا بأس به في موقعه.
كما أن هذه الوزارة تحديدا ليست مدعاة لاحتفال شخصي أو حزبي من أي نوع، وكل ما هنالك أن هذا الأخ الوزير وحركته الذين يتأهبون لإعلاء راية مشروعهم واكتساح الانتخابات، تم تقديمهم قرابين سياسية لتحمل مسؤولية الفشل الاقتصادي وسوء السياسات والإدارة المالية، والموازنة التي تتضخم مصروفاتها دون موارد في جنون جامح وغياب للأهلية العقلية العامة تتضاعف حدته عاما بعد آخر.
لسنا ضد أحد بعينه، إنما ننتقد التصورات والأفعال الهمجية والبدائية والعقليات الحزبية المافيوية لإصلاحها والخروج إلى فضاء رحب من آفاق العمل الوطني المشترك لتحقيق المصلحة القومية العليا بالمنهج العلمي والعقلانية والمعايير الدولية الحديثة المتعارف عليها، وللأسف فإن الأحداث والتطورات الراهنة ترسم صورة قاتمة للمستقبل، دولة فاشلة بين أيدي جماعات من الحكام والسياسيين والعساكر وأمراء الحرب من مختلف الخلفيات والمذاهب، تجمعهم عقلية واحدة همجية بدائية مافيوية لا تعرف الرؤية الاستراتيجية القومية الشاملة وأساسيات بناء وإدارة الدول والمجتمعات في القرن الحادي والعشرين، ولا قيم الإنجاز والتنحي عند الفشل وعدم التصدي لمهمات وتحديات أكبر من قدراتهم المتواضعة، ولا يعرفون المؤسسية والنزاهة والشفافية وحكم القانون، إلا عندما يرفعون لافتات وشعارات رنانة على واجهة دكاكينهم الحزبية والثورية والأسرية والمليشياوية.
المشكلة الأساسية في مخالفة الوثيقة الدستورية مع علاتها التي وقعت عليها قحت والمنسحبين منها على سبيل المثال الفصل السادس المادة 19: حظر الترشح في الانتخابات القادمة (لايحق لرئيس وأعضاء مجلسي السيادة والوزراء وولاة الولايات أو حكام الأقاليم الترشيح في الانتخابات العامة التي تلي الفترة الإنتقالية).
لو كانت هذه المادة مثبتة نصاً وعملاً لرأينا وضعاً آخر وإنسحاب كثيراً من أصحاب الهبوط الناعم والبيوتات والصف الأول بالأحزاب وتكونت حكومة من كفاءات حقيقية مستقلة تخدم البلاد والعباد، ومن بعد ذلك من له جمهور وشعبية فليحتكم لصناديق الإقتراع.
ولكننا مازلنا ننظر بمنتهى البلاهة في إنتهاك الوثيقة الدستورية وإحتلال الجهلاء والجهويين والمنتفعين والمرتزقة كابينة الحكومة وننتظر أمناً وسلاماً وعيش كريم.