مقالات وآراء سياسية

فضاءات الجمعة.. في الكرَم

عثمان شبونة
* هو البشاشة في أسمى تجلياتها؛ وهو الفرح الذي تستلذ به النفس العالية في تمثُّلها بإحدى صفات الخالق عز وجل.. فإذا أردنا تعديده في المعاني والصفات طربت جوانح العارفين وأهل الذوق؛ وربما سكرت الألباب بذكر أربابه وأحبابه عبر الزمان.. إنه (الكرم).
* الكلمة (كرم) تحسها ذات (ملمسٍ) مختلف يحشد الذات بالأمان! ووقع يبلل القلب بسكينة ووقار وفخار.. كلمة تملأ المسامع بفيض أكبر من إدراكه أحياناً.. وإن شئت فهو البر.. قال الله تعالى: (لن تنالوا البرَّ حتى تنفقوا مما تحبون).
* عن جابر بن عبدالله رضى الله عنه قال: ما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط؛ فقال لا. وعنه صلى الله عليه وسلم؛ قال: السخى قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنة بعيد من النار؛ والبخيل بعيد من الله بعيد من الناس بعيد من الجنة قريب من النار؛ ولجاهل سخى أحب إلى الله من عابد بخيل).
* جاء في كتاب (المستظرف) لبعض الحكماء: (أصل المحاسن كلها الكرم؛ وأصل الكرم نزاهة النفس عن الحرام وسخاؤها بما تملك على الخاص والعام؛ وجميع خصال الخير من فروعه).
* بالعودة إلى رسولنا الكريم وقد كان (أجود من الريح المُرسلة)؛ نجده صلى الله عليه وسلم محفزاً ومرغباً للعباد بأحاديثه التي تمتدح السخاء وتلمس اغتباطها بالكرام؛ يقول: (تجاوزوا عن ذنب السخى فإن الله آخذ بيده كلما عثر وفاتح له كلما افتقر).
* الكرم بمثابة رافعة من العثر ومنجاة من الفقر.. أو كما يخبرنا الحديث.. وقريباً منه قول أكثم بن صيفي: (صاحب المعروف لا يقع؛ وإن وقع جِد له متكأ).
* قال علىٌّ كرّم الله وجهه: لا تستحي من عطاء القليل؛ فالحرمان أقلّ منه. وروى عنه: (سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أشكروا لمن أثنى عليكم؛ وإذا أتاكم كريم قومٍ فاكرموه). وكان رضى الله عنه قد جاءه أحد الأعراب وشكا إليه من فقر ألمَّ به؛ فأمر عامله بالقول: يا قنبر؛ أكسِه حلتي؛ فأنشد الأعرابي:
كسوتني حلّةً تُبلى محاسنها
فسوف أكسوك من حُسنِ الثنا حُللا
إن نلت حُسن الثنا قد نلت مكرمةً
وليس تبغى بما قدمته بَدلا
إن الثناء ليُحيى ذكر صاحبه
كالغيث يحيى ندَاهُ السهلَ والجبلا
لا تزهد الدهرَ في عرفٍ بدأت به
كل امرىءٍ سوف يجزى بالذي فعلا.
* كم صنيعة من كريم زادته سموقاً وشرفاً في الأمصارِ؛ ولانت لها القلوب بالأذكارِ؛ فتعلقت وتعلّمت بها؛ وما بين التعلُّق بسِماتِ الكرماء والتعلُّم بنفحاتها سبيل يفلح الإنسان بِسَلكِهِ وقتما وأينما وكيفما شاء.. وكم من مكرمة نصرَت صاحبها؛ ذللت له ورطات؛ وحفظته من سوءات.. فمن الأقوال الشهيرة التي تُنسَب لأبي بكرٍ الصديق؛ وتارة تُنسب إلى رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم: (صنائع المعروف تقي مصارع السوء).. أما الأحاديث التي ضمنت الكرم ولكن بلفظ (البر) فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزيد في العمر إلّا البرُّ، ولا يردُّ القدر إلّا الدُّعاء، وإن الرجلَ ليُحْرَم الرِّزق بخطيئة يعملها).
ــ لا أشك بأن البخل؛ اللؤم؛ والحرِص من الخطايا.
* المآثر التي يشع الكرم فيها ومنها كثيرة.. على نحو ذلك ما قاله ابن دهقان: (ما خرج أحدٌ من الدنيا كما دخلها إلّا بشر بن الحارث؛ فإنه أتاه رجل في مرضه؛ فشكا إليه الحاجة؛ فنزع قميصه وأعطاه إياه، واستعار ثوباً فمات فيه).
* إن ذرى العطائين الأسخياء عند العرب والعجم؛ تتمثل في تراث ضخم منذ (حاتم الطائي) وما قبله.. ثم نقرأ عن كرمٍ لحد الرهبة عند أبي سليمان الداراني؛ أحد أعلام التصوف في القرن الثالث الهجري؛ يقول: (لو أن الدنيا كلها لي فجعلتها في فمِ أخٍ من إخواني لاستقللتها له). وما أعجب قوله: (إنِّي لألقم اللُّقمة أخاً من إخواني فأجد طعمها في حلقي).
* في قمم الكرم الشاهقة تتحلى الأفئدة وتتسلى المَسامِع بذكر الإيثار؛ وقد جاء تعريفه في اللغة: (تفضيل المرء غيره على نفسه) أما الكرم كاصطلاح؛ فذكرهُ المتكلِّم البليغ عبدالقاهر الجرجاني (1009 ــ 1078م) فقال بإيجاز: (هو الإعطاء بسهولة) ولغةً جاء معنى الكرم كنقيض للؤم.. وقرأتُ في بعض الكتب ما نُسب إلى سيدنا علي: (إذا سألت كريماً حاجة فدعهُ يفكِّر؛ فإنه لا يفكِّر إلّا في خير، وإذا سألت لئيماً حاجة فعاجلهُ؛ لئلا يشير عليه طبعه أن لا يفعل).. وقد ذكر بعض الأولين: أن الإيثار لا يكون عن اختيار؛ إنما الإيثار أن تقدِّم حقوق الخلق أجمع على حقِّك، ولا تميِّز في ذلك بين أخٍ وصاحبٍ ذي معرفة.
* قال القاضي الجرجاني:
وتركي مواساةَ الأخِلَّاءِ
بالذي تنالُ يدي؛ ظلمٌ لهم وعقوقُ
وإنِّي لأستحيي مِن الله أن أُرَى؛
بحالي اتِّساعٍ والصَّديق مُضيقُ
* ونقرأ للشاعر أحمد محرم (1877 ــ 1945م):
المالُ للرَّجلِ الكريمِ ذرائعٌ
يبغي بهنَّ جلائلَ الأخطارِ
والنَّاسُ شتى في الخِلَالِ
وخيرُهم مَن كان ذا فضلٍ وذا إيثارِ.
* رحم الله القاريء بفضلهِ؛ وأكرمهُ في الدنيا والآخرة.
ـــــــ
المواكب

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..