أخبار السودان

حول تجريد وزارة الإعلام من هيئة البث الإذاعي والتلفزيوني ومجلس الصحافة … الإعتراضات والمخاطر

بقلم: ماهر أبوجوخ

إستبشر كثيرون بإضافة وزارة للإتصالات في التشكيل الوزاري الجديد بإعتبار أن إضافة هذه الوزارة ينهي أزمة مكتومة دارت رحاها بين الحكومة التنفيذية ومجلس السيادة. ولعل ملف التنازع على ملف الإتصالات هو سابق لتشكيل الحكومة الإنتقالية الأولي برئاسة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك في سبتمبر 2019م وبرز على السطح في أعقاب قرار المجلس العسكري بقطع خدمة الإنترنت بالبلاد بعد جريمة فض إعتصام القيادة العامة في 3 يونيو 2019م والمخاوف التي أبداها البعض على الحكومة التنفيذية من إمكانية إستمرار إجراءات التعقب والتجسس الإلكتروني دون علمها الأمر الذي سيجلعها مكشوفة تماماً وأسرارها (في الهواء الطلق)، ما فاقم من تلك المخاوف يومها القرار الصادر عن المجلس العسكري في أغسطس 2019م بتبعية جهاز تنظيم الإتصالات لوزارة الدفاع.

شهد الملف المرتبط بالإتصالات تطوراً مهماً في سبتمبر 2019م بإصدار رئيس مجلس السيادة الإنتقالي يلغي قرار المجلس العسكري بتبعية جهاز تنظيم الإتصالات لوزارة الدفاع ويحول تبعيته لمجلس السيادة، لتستمر أزمة مكتومة وجدل حول تبعية جهاز تنظيم الإتصالات لينتهي أخيراً ويحسم بإضافة وزارة جديدة للحقائب الوزارية بإسم وزارة الإتصالات وتسمية هاشم حسب الرسول وزيراً لها.

تكرار الخطأ

رغم الجوانب الإيجابية المرتبطة بعودة وزارة الإتصالات إلا أن الجهات التنفيذية في طريقها لإرتكاب خطأ فادح بإقرار تبعية (هيئة البث الإذاعي والتلفزيوني) لوزارة الإتصالات عوضاً عن وضعها الراهن كأحد الوحدات التابعة لوزارة الإعلام، وهو أمر عند حدوثه قد لا يقل فداحة عن خطأ مماثل في المرسوم الخاص بتحديد إختصاصات الوزارات قبل تشكيل الحكومة الأولي في سبتمبر 2019م بإلحاق مجلس الصحافة والمطبوعات بوزارة شؤون مجلس الوزراء عوضاً عن وضعيته السابقة ضمن الوحدات التابعة لوزارة الإعلام. ومن الطبيعي أن لا يحظي هذا المجلس –الصحافة والمطبوعات- بالإهتمام اللازم قياساً بالملفات الكبيرة الموجودة بوزارة شؤون مجلس الوزراء والهيئات والمجالس المتعددة المرتبطة به.

تمثلت النتائج التي ترتبت على هذا الأمر توزيع شأن الصحافة والمطبوعات ما بين الوزارة المختصة (الإعلام) والوزارة التابع لها مجلس الصحافة والمطبوعات (مجلس شؤون الوزراء) وإنتهي المشهد بإستمرار وإستدامة الفراغ الإداري بمجلس الصحافة والمطبوعات حتى اللحظة وما نتج عنه من فوضي عارمة في سوق الصحافة الورقية والإلكترونية بشكل ترتب عليه تزايد وتنامي إنتشار الشائعات والجهات المروجة لها.

في تقديري أن إعتماد تبعية (هيئة البث الإذاعي والتلفزيوني) لوزارة الإتصالات ستقودنا لنتائج وعواقب كبيرة تهدد المشهد الإعلامي بالبلاد وتكرار لذات مآل ضم مجلس الصحافة والمطبوعات لوحدات وزارة شؤون مجلس الوزراء، سيما إذا ما نظرنا للتحديات والملفات الملقاة على عاتق وزارة الإتصالات في عدة ملفات متشابكة على رأسها القضايا المرتبطة بشركات الإتصال وتطوير هذا القطاع والحكومة الإلكترونية الأمر الذي سيجعل الشأن الخاص بهيئة البث الإذاعي والتلفزيوني في الحد الأدني ضمن الدرجة الثانية من إهتمام وزارة الإتصالات، أما نتيجة هذا الأمر فيكمننا القول بأننا في طريقنا لمعايشة فوضي إعلامي إذاعياً وتلفزيونياً وتهديد الأمن القومي إنتشار أجهزة الإرسال التلفزيوني والإذاعي جراء تضارب وتعدد قنوات الإختصاص والتصديق.

إستنطاق التاريخ

من المهم أن نؤسس هذا النقاش من زواية تاريخية وأخرى عملية لتبيان أسباب التحفظ على تبعية (هيئة البث الإذاعي والتلفزيوني) لوزراة الإتصالات عوضاً عن وزارة الإعلام، لعل الزاوية التاريخية تقودنا مباشرة لطرح سؤال مباشر (هل هذه المرة الأولي التي تجتمع فيه وزارتي الإتصالات والإعلام ضمن تشكيل حكومي؟ وإذا كانت الإجابة نعم فأين كان موقع هيئة البث الإذاعي والتلفزيوني بينهما ؟).

نجد الإجابة على هذا الإستفسار هو وجود سوابق بالتشكيل الحكومي تواجدت فيه وزارتين للإعلام والإتصالات منفصلتين مع وجود سابقة أخرى دمجتا في وزارة واحدة تحت مسمي (الإعلام والإتصالات).ما يهمنا في هذه المقارنة هو تحديد موضع (هيئة البث الإذاعي والتلفزيوني) في الوزارتين وبالعودة للوقائع نجد أن (هيئة البث الإذاعي والتلفزيوني) كانت على دوام ضمن المؤسسات التابعة لوزارة الإعلام سواء كان مسماها (الإعلام والإتصالات) أو (الثقافة والإعلام) أو (الإعلام).

جدل (الفني) و(المحتوي)

على مستوي السياق العملي نجد أن مسمي الهيئة (البث الإذاعي والتلفزيوني) يوضح بشكل مباشر صلتها كأحد المكونات اللازمة والمكملة لأي بث إذاعي وتلفزيوني وهو عناصر أساسي في عملية الإنتاج الإذاعي والتلفزيوني كحال المطابع مع الصحافة قد ينفصلا في الدور فالفريق الصحفي يختص بـ(المحتوي) أما المطبعة فمعنية (بإخراج هذا المحتوي بشكله النهائي)، وذات الأمر ينطبق على العمل الإذاعي والتلفزيوني والشق الخاص بالبث الإذاعي والتلفزيوني وهي عملية متكاملة وضرورية للعمل الإذاعي والتلفزيوني.

ربما يربط البعض هذا القرار بإعتبار أن تشغيل (هيئة اليث الإذاعي والتلفزيوني) مرتبط بالإتصالات وهي معلومة صحيحة في عمومها غير دقيقة في تفاصيلها لأن (البث الإذاعي والتلفزيوني) لديه جوانب أخرى مرتبطة بالمحتوي، لأن تطبيق هذا المعيار كأساس لتحديد تبعية الوحدات لوزارة الإتصالات يجعلها تشمل وحدات أخرى مماثلة كأورنيك التحصيل المالي الموحد (أورنيك 15) المستخدم من قبل وزارة المالية، أو السجل المدني وبياناته الخاص بوزارة الداخلية وشبكات الإلكترونية الرابطة بين البنوك والمصالح الحكومية كتشغيل وإدارة وتحصيل … الخ. وطالما أن صلة وزارة الإتصالات بتلك الأنشطة هي تنسيقية فنية والإسهام في عمليات التطوير والتحديث بما يحقق لها أعلى درجة التأمين ويسهل إستخدامها وتداولها ويحفظ بياناتها فإن ذات المنطق ينطبق على هيئة البث الإذاعي والتلفزيوني.

في ذات السياق يمكن إعمال ذات المنطق تجاه وحدات أخرى تابعة لوزارة الثقافة والإعلام مع جهات أخرى فمثلاً أكاديمية السودان للتدريب بذات المنطق يستوجب أن تتبع لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي أما السياحة فعند إعمال ذات الأمر يمكن تبعيتها لوزارة الداخلية. هذا يقودنا لنقطة إضافية وهو إمكانية وجود وحدات توجد تقاطعات فنية مع وزارات أخرى لكن تصبح تابعة لوزارة الثقافة والإعلام بإعتبار أن الشق الخاص المرتبط بالمضمون والمحتوى هو الأكثر إرتباطاً بوزارة الثقافة والإعلام أكثر من الوزارة الأخرى. وهذا بدوره يدعم وجهة النظر التي تعتبر أن تطابق جانب من المعاير الفنية هو سبب وحيد كافي لإلحاق وحدة موجودة بوزارة لوزارة أخرى.

تداعيات التضارب

الجانب الثاني المرتبط بإعتراضي على ضم هيئة البث الإذاعي والتلفزيوني لوزارة الإتصالات هو شق عملى فإجراءات التصديق للقنوات والإذاعات المحلية والأجنبية والسماح لها بالعمل في السودان بشكل دائم أو مؤقت هو أمر من صميم مهام وزارة الإعلام وتشمل هذه التصديقات جوانب أساسية وحيوية مرتبطة بترتيبات البث وتصاديق الأجهزة ذات الصلة بالبث الإذاعي والتلفزيوني. هذه الوضعية تخلق صعوبات وتعقيدات عملية بوجود جهتين مختلفتين لإستكمال التصاديق والإجراءات الخاصة بالعمل الإعلامي، إلا أن الخطورة الحقيقة تتمثل في حدوث تضارب بقيام أحد الجهات بمنح التصديق في الوقت الذي تعترض الجهة الثانية وما سيزيد من خطورة تداعيات الأمر هو تسبب هذا الأمر في تهديد مباشر للأمن القومي وربما تجد البلاد نفسها في أزمة جراء تطابق المعايير الفنية ووجود تحفظات مرتبطة بالمحتوي فالشق الفني هو أمر من إختصاص ومهام وإمكانيات وزارة الإتصالات أما الجانب المرتبط بالمحتوي فهو ضمن مهام وإختصاصات وإمكانيات وزارة الإعلام.

يمكننا الإستدلال بواقعة جرت خلال الشهور الماضية من قبل احدى الشركات الأجنبية المقدمة لخدمات البث التلفزيوني للقنوات الخارجية والتي تقدمت بطلب تصديق لهيئة البث الإذاعي والتلفزيوني ووزارة الإعلام وحينما تم التحفظ على طلبها لأسباب أمنية قامت تلك الشركة بإستصدار ترخيص عمل من جهاز تنظيم الإتصالات الذي منح تلك الشركة رخصة لمزاولة عملها بناء على المعايير الفنية، وبالفعل قامت تلك الشركة بمزاولة نشاطها ذلك بالإستناد لذلك التضارب لكن تمت معالجة الأمر بإستصدار قرار ملزم لها بوقف نشاطها من قبل وزارة الإعلام وهيئة البث الإذاعي والتلفزيوني بإعتبارهما الجهة المخولة بمنح تصاديق تلك الأنشطة. لعل هذا النموذج العملى يصلح للقياس به لمعرفة وتحديد الأضرار التي قد تترتب على النظر للبث الإذاعي والتلفزيوني كتشغيل بعيداً عن الشق الخاص بالمحتوي.

يبقي النموذج الأبرز للتداعيات المرتبطة بالمحتوي متصل بمنصات البث الإذاعي والتلفزيوني المملوكة للهارب عبدالحي يوسف في الصحافة وكافوري، إذ أن مصدر الإحتجاج والشكوى من عمل وأنشطة تلك المنصات من بعض دول الجوار والدول الإفريقية بإعتبارها تتولى بث محتوى مثير للفتنة والكراهية،لم يكن فنياً وإنما ذو صلة مباشرة بالمحتوى الذي يتم بثه من خلال منصات البث الإذاعي والتلفزيوني، ولذلك فإن التعاطي مع البث الإذاعي والتلفزيوني كتشغيل فني دون إستصحاب للشق المرتبط بالمحتوي هو أمر ستكون لديه تداعيات خطيرة على العمل الإعلامي الإذاعي والتلفزيوني وقد تلقي بظلال سالبة على الأمن القومي للبلاد.

مطلوبات التطوير

لا يمكن تحديث وتطوير العمل الإذاعي والتلفزيوني بالبلاد وتحويله لصناعة ضخمة قادرة على تحويل الخرطوم وتوظيف موقعها الجغرافي وميزاتها التفضيلية وتنميته بتحويله لإستثمار فاعل تتوفر له إمكانية النمو والإزدهار والإنتعاش بإعتماد الوضع الراهن الذي يتم بمقتضاه تحويل هيئة البث الإذاعي والتلفزيوني لوزارة الإتصالات، هذا القرار ستترتب عليه أثار مدمرة على فرص القطاع الإعلامي في التطور والنمو وستضع عوائق معيقة أمامه.
بالرغم من هذه الصورة القاتمة فمن حسن الحظ لا تزال الفرصة متاحة لتصويب هذا الأمر بإعادة الأمور لما كانت عليه بإعادة (هيئة البث الإذاعي والتلفزيوني) ضمن وحدات وزارة الثقافة والإعلام، مع إمكانية التنسيق مع وزارة الإتصالات والجهات الأخرى في ما يتصل بالجانب الفنية على أن تتولي وزارة الثقافة والإعلام الجوانب ذات الصلة بالمحتوي.

إعادة مجلس الصحافة

من الضروري إستكمال هذا الإجراء الخاص بإعادة (هيئة البث الإذاعي والتلفزيوني) لوحدات وزارة الثقافة والإعلام بإجراء أخر لا يقل أهمية بنقل (مجلس الصحافة والمطبوعات) من الوحدات التابعة لمجلس شؤون مجلس الوزراء وإعادة مجلس الصحافة ضمن للوحدات التابعة لوزارة الثقافة والإعلام بإعتبار الإختصاص، الأمر الذي يعين على إنهاء حالة السيولة والفوضي الإعلامية تسود المشهد حتى بات إستخدام الشائعات المجرم قانوناً والمحظور مهنياً أمر يتم التباهي بإستخدامها كسلاح مشروع ومباح رغم مخالفة الشائعات للقانون وللقواعد المهنية !! ولم يتمادوا في هذا الضلال إلا حينما تسيد الإرتباك والفوضي المشهد.

لا يمكن القيام بذات الأمر في نفس الظروف وتوقع نتائج مختلفة، للذك فإن مواجهة هذا الأمر وتصويب هذا الواقع المختل يستدعى الإستفادة من دروس الماضي وعدم السماح بإستمرار وتنامي وتزايد تسميم الأجواء الإعلامية بالسلوك المخالف للقانون والمفارق للمهنية بجعل الشائعات وبثها ونشرها والترويج لها هي السمة السائدة بالساحة الإعلامية جراء مساحات فارغة تنسحب وتتفهر منها الجهات القادرة على التصدي لهذه الظواهر التي تهدف في جوهرها لتوظيف مناخ الحريات العامة للإنقضاض على الثورة والعودة على صهوة شمولية وديكتاتورية بغيضة عبر إعادة إنتاج تجربة حزب الجبهة الإسلامية خلال الديمقراطية الثالثة (1985-1989م) بتوظيف الصحف الموالية له لتهيئة الأجواء لإنقلابهم في الثلاثين من يونيو 1989م، وهو أمر يجب أن لا يسمح بتكراره مرة أخرى حتى لا نصبح (كال البربون لم ننس شيئاً ولم نتعلم شيئاً) !!!

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..