مقالات وآراء

ما السر الذي دفنه الطيب صالح حين دفن مريم

 اماني ابوسليم

يفور هذه الايام العالم بالمهاجرين و المغتربين عن بلادهم، باحثين عن اوطان و احوال جديدة، حاملين معهم وجدانهم او ربما دافنيه في الديار. رحلة الوجدان من الديار الى الغربة و تقلبها على وجع الذكرى و طلق الميلاد الجديد، كانت من اهم المواضيع التي ناقشها الطيب صالح في اعماله القصصية و الروائية. و الحبيبة في قصصه، تمثل الوطن و الثقافة و الذكريات و الحبيبة نفسها. فإن تتبعنا حبيبات ابطال الطيب صالح سنقتفي اثر وجدان المهاجر الذي يعاني غربة الثقافة و المكان و الناس، مع تناقض ذلك و حب التطور في الحياة و سبل العيش و تطور الفكر و الارتباط ببؤرة العالم. خلف ذلك يرسم الطيب صالح خلفية عن الانسانية و توحدها اينما كانت البلد التي يحيا فيها الانسان، في رحلته من الميلاد للموت و حسابه نفسه بمقياس دقيق عند ملاقاة الله كنهاية لكل انسان هاجر او ظل مقيماً في دياره.

في مريود، الرواية التي تفيض بالمنولوج و الحديث مع النفس، دفن البطل حبيبته مريم، حب صباه الذي لم يتحقق، وصف الطيب ذلك على لسان البطل ( دفناها عند المغيب كأنّا نغرس نخلة، او نستودع باطن الارض سراً عزيزاً، سوف يتمخض عنه  المستقبل بشكل من الاشكال) كيف يدفن حبيبة كغرس ينبت اشكالاً اخرى في المستقبل. مريم كانت الديار، ذكريات الطفولة و الارتباط بالارض.
كأنه يقول: ضياع الحلم بالحبيبة و الوطن بالسفر و الغربة ربما دفن او زرع الى حين، ليظهر بشكل آخر، اختيار آخر، كما تظهر الشجرة من بذرة، فالحياة لن تتوقف على مكان او اشخاص ربما كان الانسان اكثر قدرة على المضى للامام باختيارات جديدة.
فالانسان يظل انساناً بذات المرامي و الغايات، مهما تغير المكان و الحبيبة و الحلم، قال البطل و هو يحمل نعش حبيبته مريم (و انا اسير بها في طريق طويل يمتد من بلد الي بلد و من سهل الي جبل) .  و يتغير المغترب و المهاجر فيصبح غريباً عن وجدانه و حبه، و يعبر الطيب عن ذلك بلسان مريم (العيون عيون مريود و الخشم خشم مريود و الحس حس مريود لكين انت ما مريود).
في رواية ( موسم الهجرة للشمال) يتعلق الراوي بحسنة بت محمود و تطلبه للزواج بها و لا يتشجع، و يضيع حلم آخر، و لكنه حلم تطور عن مريوم حبيبة الطفولة، ابنة القرية و التي تحمل ذكرياتها الدافئة، و الحبيبة للنفس. حسنة بت محمود ابنة القرية ايضاً و لكنها بعد زواجها بمصطفى سعيد العائد من انجلترا اكتسبت منه رؤية و تعاملاً جديداً مع الحياة فصار لها شئ من القوة و الارادة و الحرية. عبر الطيب عن ذلك بوصفها انها اصبحت  (اجنبية الحسن). لم تكن كمريوم التي رضخت و تزوجت بكري، بل رفضت     و تجرأت و طلبت ان تتزوج البطل، و عندما لم تنجح قتلت زوجها و نفسها.
حسنة بت محمود، تطور في وجدان المهاجر و المغترب في حلمه بالحياة و الوطن و اختيار الاحتمالات، بين ثقافة وطنه و ثقافة المهجر. حسنة بت محمود عبرت عن امتلاكه ادوات جديدة تمنحه القوة و الارادة و بداية اعجاب المهاجر بلمحات الثقافة الجديدة، رغم أنه لا زال متردداً. يرسم الطيب بطلاً جديداً يقع في اختيار الغربة و التشرب بثقافتها، و ذلك في قصته ( رسالة الى إيلين)، فيعبر عن ذلك على لسان بطله (تبنيتك وآخيتيني) ، (أنا في حسابهنَّ كنخلة على الشاطئ اقتلعها التيار وجرفها بعيداً عن منبتها)، (هؤلاء القوم قومه. قبيلة ضخمة هو فرد منها. ومع ذلك فهم غرباء عنه. هو غريب بينهم. قبل أعوام كان خلية حيّة في جسم القبيلة المترابط. كان يغيب فيخلف فراغاً لا يمتلئ حتى يعود). بين الحلم القديم و الحلم الجديد، الحلم المخفي وراء الحبيبة، المحفوف بفوارق الثقافات، يقول بطله: (ثمانية أشهر وأنا أتهرب وأحاور وأحاضر. أحاضرك في الفوارق التي تفرقنا. الدين والبلد والجنس. أنت من ابردين في سكتلندا وأنا من الخرطوم. أنت مسيحية وأنا مسلم. أنت صغيرة مرحة متفائلة، وأنا قلبي فيه جروح بعدُ لم تندمل. أي شيء حببني فيكِ؟ أنت شقراء زرقاء العينين ممشوقة الجسم، تحبين السباحة ولعب التنس، وأنا طول عمري أحنُّ إلى فتاة سمراء، واسعة العينين، سوداء الشعر، شرقية السمات، هادئة الحركة. أي شيء حبَّبكِ فيَّ، أنا الضائع الغريب، أحمل في قلبي هموم جيل بأسره؟ أنا المغرور القلق المتقلب المزاج؟)
في نماذج مريم و حسنة بت محمود و إيلين، يناقش الطيب صالح وجدان المهاحرين بين التعلق بالديار و الذكريات و ما يلفاهم من تطور في مناحي الحياة و اكتسابهم ثقافات جديدة. قد تجعلهم غرباء عن اوطانهم الاصلية، اكثر قرباً للثقافة الجديدة، مضيفين لها من ثقافاتهم، في تطور طبيعي للوجدان الانساني حدث و يحدث عبر التاريخ.
و في نقاشه للغربة، يطرح ايضاً الطيب عدداً من الغرباء على قرية ( ود حامد)،  و يناقش اثرهم على المكان و الناس، و لكن ( الطاهر) ود الرواس، هو الشخصية الوحيدة التي استحضرها بطل قصة ( الرجل القبرصي) ، و هو يحاور فيها الموت، الذي رمز له بالرجل القبرصي، الطاهر هذا كان ابن غريبين عن القرية، بلال العبد و فاطمة بت العريبي، ناتج عن غربة، و لكن بفيض حب. لا يحمل نسباً و لا حسباً بموازيين اهل القرية و الدنيا، يقول الطاهر ود الرواس في رواية مريود: ( ملت قلبي بالمحبة حتى صرت مثل نبع لا ينضب، و يوم الحساب يوم يقف الخلق بين يدي ذي العزة و الجلال    …. سوف اقول يا صاحب الجلال و الجبروت عبدك المسكين الطاهر ود بلال ولد حواء بت العريبي  يقف بين يديك  خالي الجراب مقطع الاسباب ما عنده شي يضعه في ميزان عدلك سوى المحبة)  فيجعله الطيب رمزاً للطهر و المحبة الصافية كاسمى غايات الحياة على الارض في اي من اجزائها سواء كان الجزء الذي شهد ميلاد الوجدان او غربته او تطوره، فكأن الطيب صالح بعد تناوله الوجدان المتعب للمهاجر و تتبعه في حله و ترحاله يصل لتصغير المكان و الثقافة بحساب حب الكون و الانسانية، و بحساب الغاية الكبرى من الحياة على اي ارض كانت، و هي غاية لقاء خالقه لا بميزان الحسب و النسب لمكان بعينه و ناس بأعينهم و لكن بميزان العدل و المحبة.
ربما اختلف الاغتراب و اختلفت الهجرة في هذا الزمان لسهولة الاتصال و الرؤية و الارتباط بالارض الام، لكن لا زال الوجدان اليفاً للديار يحن و يهفو، و ما بقت الهجرة قضية وجدانية و ثقافية و وجدانية سيظل تناول الطيب صالح لها تناولاً متفرداً فحبره ينبع من مكان في داخله تصفو عنده الروح و يتقد العقل و يحنو الفؤاد، و هو حيث يمور حب الحبيبة و الوطن و الحن للذكريات، و هو مكان الحساب عند الخالق، اينما كانت ارض ميلادك او حياتك او مماتك، فيكون حسب الطيب صالح العمل بميزان المحبة اقدر على حمل الحياة و ازدهار الوجدان.

*الذكرى التاسعة لرحيل الاديب الطيب صالح ١٨ فبراير

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..