أهم الأخبار والمقالات

الصحافة التي تغرينا السلام ولا تنقصها سوى رؤيتنا الغالية

وجدي كامل

 قد يجوز وصف الصحافة السودانية منذ بدايات  الانقاذ حتى الان بصحافة الرأى او الأعمدة الصحفية. فالصحف بالسودان مرفوعة تبدو بأعمدة لا حد لها لكتاب وكاتبات أودت العادة بهم في العقود الاخيرة بألا يغدوا عاملا من عوامل انتشار الصحيفة بالأسواق فقط ولكن في ان يساهموا في تعريف ماهيتها وهويتها بنحو مقلوب وناقص.

فكما تقتضي الضرورة التمييز بين المجلة والصحيفة تقتضي الضرورة وبنحو حاسم التمييز بين الصحفي المهني والكاتب الصحفي، فالاول يمتهن الصحافة كعمل تحريري له مطبخه، وشؤونه الدقيقة من كتابة الخبر، ومعرفة بنائه، وتحريره الى كتابة التقرير الخبري، والقصة الخبرية، الى اجراء المقابلة وعمل الريبورتاج، وفي كلمة واحدة تطبيق كافة الفنون الصحفية في ميدان العمل التطبيقي.

 اما الكاتب الصحفي او الكاتبة فهو كاتب و مجال وموضوع عمله كتابة العمود والتي تظل علما ايضا وفنا لا يأبه الكثيرون لحقائق طبيعته اثناء التباري الجاري فيما بينهم والتنقل والانتقال من صحيفة لصحيفة او من مالك لمالك نشر آخر منافس . 

هكذا قدرت احوال التطور المهني الشائه المدعوم بواسطة تقاليد غريبة أرستها سلطة الانقاذ في ان تخرج الصحافة عن مسارها الأصل منذ بداية تسعينات القرن الماضي ولا  تستعيد المبادرة مرة اخرى.

 ولكن النتيجة وكما نرى ونلاحظ تتراكب وتتكون في سيطرة سوق كتاب الأعمدة على المكون المهني للصحافة السودانية وبحيث تصبح تبعات ذلك تبعات لا تحمد عقباها في المنظورين القريب والبعيد لتطور الصحافة.

 تاريخ الصحافة ومنذ نشأتها كان جزءا من عمل صناعة الاخبار وبيعها أو تسويقها للراى العام او القراء على نهج يتبع المسار المهني والتأثر الأيجابي بالتطور العام العالمي بالمهنة.

 و قد تأثرت تلك الصناعة بادوار المراسلين ومن بعد الوكالات، وكان التعليق على الاحداث ياخذ الحيز الاضيق والمحدود غالبا بحيث ياتي من متخصصين عركتهم التجارب المتخصصة وقوت عودهم وعمقت بصيرتهم. ونجد ان المساحات الصحفية المخصصة للتعليق الاخباري السياسي او ما بات يعرف حاليا  بكتابة العمود الصحفي السياسيى تقليدا كان يوكل للشخصية الصحفية القائدة بالمؤسسة غالبا ما يتصدر الصفحة الاولى اذا ما كان تعليقا رسميا يعبر عن سياسة تحرير الصحيفة وخطها التحريري بحيث يساعد موقع الصحفي القائد على تعميق التحليل بما يمتلك من معلومات غير متوفرة لغمار الناس عن الحدث والاحداث.

 وربما تظل الصحافة السودانية من رحمي سليمان الى محجوب محمد صالح الى فضل الله محمد وابراهيم عبد القيوم وحسن ساتي الى آخر الصحفيين المحترمين حتى الآن منتظمة في لعب ذلك الدور واتاحته وكذلك توفير عمودين ثلاثة بالصفحات الداخلية حسب مجال التغطية الذي تقوم به وفق معايير تتصل بحسن المعرفة والمهنية العالية لصاحب العمود. 

 ولكن وفي الانظمة العسكرية والديكتاتوريات التى لحقت بالمراحل السياسية المختلفة بالسودان،وفي العقود الاخيرة وخاصة مرحلة الانقاذ اصبحت كتابة العمود الصحفي تجارة رائجة  يدخلها من يدخلها ويخرج منها من يخرج دون ضوابط او قدرات تذكر سوى حيازة شهادة فك القيد الصحفي والتي يوزعها مجلس الصحافة والمطبوعات، كما الصلة الخاصة بالملاك والناشرين فاصبحت تجارة على قفا من يشيل وتحولت صحافتنا في النتيجة الى صحافة اعمدة وراى وليست صحافة مهنية بالمعنى  الذي تسود فيها خدمات وتقاليد ترفد القراء بالمعلومات الخبرية الداعمة والمحققة لرغباته في عالم يمور بالاحداث. ويبدو أن اهم ما كان يغذي ويرفد المعلوماتية في كتابة التعليقات والاعمدة هى توفر دور الصحفي المخبر – أى النسخة الأولية لغوغل حاليا، عبر تطبيقات الواتساب والفيس بوك وانستغرام وتويتر.

 فقد لعب المخبر الصحفي دورا هاما في دعم المعلوماتية ما قبل ثورة المعلوملت ببحثه الفيزيائي وباعتماده ما يعرف بالاتصال الشخصي الذي يشحذ البناء الخبري بوافر المعلومات المثيرة الملبية لحاجات القراء في معرفة ما وراء الواجهة الخبرية. 

وفيما بدأ أن اختفاء دور المخبر الصحفي في حاضر الصحافة السودانية قد أغرى باستسهال متعمد اضحى للممارسة الصحفية ككل وليس الكتابة الصحفية فقط. لقد تحول الصحفي نفسه الى أفندي كسول يقبع جل ساعات عمله في خلف الطاولة او في المكتب منتظرا وصول الاخبار بدلا عن صناعتها من المواقع والذهاب لها في ميادين الحدث والالتقاء بالفاعلين والمتضررين معا.

 من الصحيح ان التطورات التقنية قد ساعدت في تقليص الكثير من الجهود الفيزيائية التي كان يبذلها الصحفيون فيما سبق في صناعة الاخبار وأصبح الواتساب، والماسينجر، والهاتف الجوال أداة تسهم في تسهيل التواصل والاتصال بالجهات والأشخاص المعنيين، ولكن فان كل ذلك لا يزال مجرد وسائل تعين في تلقي المعلومة ونقلها دون الغاء لأهمية التفاعل الفيزيائي للصحفي مع الحدث والاحداث. 

ما أردت التعبير عنه في الفكرة السالفة هو أن أستسهال الصحفي لعمله قد فتح الباب على مصراعيه للغرباء في أن يحضروا للدار من النوافذ فيصبحون ملاكا له بفهم ومفهوم انهم باستطاعتهم فعل ما يفعله  الصحفي (الكسول) غير المسؤول من أجادة حماية مهنته ومهنيته بالعمل الخلاق اليومي. 

 نعم قد لا ننسى الاقتصاد الصحافي  الذي غالبا ما يلعب الدور الحاسم في المنعة المهنية، او الضعف المهني خاصة وقد ابتلينا ومنذ الدينقراطية الثالثة بتراخيص صحفية لا تمت بصلة الى التاريخ المهني للشخصيات المصدق لها بتلك التراخيص فادخلت اياديها عميقا لتحدث اثرا سالبا في الجودة المهنية وتم فتح الباب لاصحاب رؤوس الاموال من الطفيليين والراغبين في غسيل الاموال للعمل بمجالات صناعة الصحف والصحافة الامر الذي عمق اضطهادهم للصناع الاساسين الذين تحولوا الى عمالة رخيصة في مقابل استكتاب اقلام يبذل لها الجهد والمجهود في المطابخ الصحفية من اعادة تحرير وتصحيح حتى تخرج اعمدتهم بالصورة التي يقرأها عليها القراء. جاءت من بعد الانقاذ لتزيد الازمة و تسيس رأس المال الصحفي وتضع اغلب الاصدارات الصحفية في جيبها بغية التحكم والسيطرة على الرأى العام وتزوير مفاهيمه وتعتيم رؤيته وأحكام حكمه بالجهل والتجهيل والجهلاء عبر تمكين وكلائهم من المضاربين في مهنة الصحافة.

 لقد تدهورت الصحافة اكثر بأسباب اخرى تتصل بالثورة المعلوماتية والتقنية وسيطرة الصحافة الالكترونية على المشهد العام بسهولة الحصول عليها وتداولها بين الناس. 

يحدث ذلك التدهور في تعاظم وتنامي لاقسام وكليات الاعلام والتي نجد دراسة الصحافة ركيزة اساسية لها  ولكن دون نتائج تذكر او تحققها في اسواق العمل، و دون احداث انتقالات أو نقلات في مستوى المهنية لأسباب علمناها وخبرناها في التجربة العملية لتدريس المناهج والمدرسين لها من أفندية الشهادات العليا المتحرشين بالمهنة دون ممارسة سابقة لها وبأعتماد تام على مراجع ومصادر تاريخية تجاوزتها علوم الصحافة والاعلام . أما الشريحة الممارسة من الصحفيين فجراء أسباب عديدة منها التهميش الاقتصادي واعلاء قيمة الكتاب تالصحفيين عليهم فقد أصبحوا يتسربون من المهنة قد يقال ان الاسواق نفسها في طريقها للإغلاق والتجميد بعد ان اصبحت طاردة لمنسوبيها المنضمين لشرائح الفقراء الممتدة بالبلاد وبعد ان صاروا يشكون لطوب الارض من العنت والظلم الذي يتعرضون له في مهنتهم. 

اكتب هنا واعني مناقشة الامر من منطلق الفائدة والخسارة الاقتصادية بعيدا عن عوامل طاردة اخرى كفساد البيئة العملية وضعف خدماتها التقنية الناتج من ضعف رؤوس الاموال المستثمرة و تراجع حماسها لتطوير عمل الصحافة الذي اصبحوا يرون فيه مدرارا للارباح والعوائد دون الاعتناء بحسن الصرف وبذل الاموال لتدريب وتحسين القدرات. 

جراء كل ما سبق ينزع الملاك والناشرون وتوفيرا لكل المستحقات الانفة الى فتح صحفهم وتوطين كتاب الاعمدة بها كاصحاب مواطنة أو ملكية منهنية صحفية اصيلة واستثنائية تفوق وتتفوق على مواطنة الصحفي المهني الذي صار يتبدد تدريجيا ويختفي بحثا عن لقمة العيش بمجالات اخرى.

 اعود واقول بأني لا أحوز على كثير ثقة بجودة افكار الاعمدة اليومية التي نطالعها لكتاب كثر حيث لا تتوفر اغلب اسباب الحصول على المعلومة والمواكبة الخبرية احيانا لأسباب تتصل بخراب بنية الاتصال اصلا وشبكات دعمها فيلجا الغالبية الى كتابة التعليق على الاحداث بصفة يطغى عليها التقدير الشخصي اكثر منه التقدير المبني عبى المعلومة والبحث الوفير المنتج بالتالي لافكار جديدة وخلاقة تساهم في فتح مغاليق الاشياء وهذا باب يدخل في مفهوم ثقافة الفساد المهني الذي يضرب البلاد طولا وعرضا تحت ضغط الازمات الاقتصادية المتفاقمة وانخفاض جودة المعروض من البضائع والافكار وفي مقدمتها أفكار سوق السياسة القائدة التي تطحن العباد بآلات و آلية خربة من الاعلام الوحشي المتوحش المضاد لسياسات الثورة واعتماد مفاهيم وثقافة الاصلاح.

[email protected]

تعليق واحد

  1. اذا اردت ان تعرف ماهى الحزلقة و الكتابة الديكورية فاقرأ هذا المقال فانه مثال لذلك !

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..