أخبار مختارة

قضية هِلال والنفاق السياسِي والاجتماعِي

فتحي الضَّو

تحتال النُخبة السياسية وتلتف حول خيباتها المُتوارثة بفرية سمتها (التسامح السياسي السوداني) وفي حقيقة الأمر هو مُصطلح هُلامي ومُضلل، إذ لا وجود له على أرض الواقع البتة. وقد ابتدعته النخبة أساساً للتحايل على شهوة السلطة التي أدمنتها، ويروِّج له المجرمون تحديداً لأجل الإفلات من العقاب، خاصة عندما تتعاظم جرائمهم التي تستوجب المحاسبة. تلك البدعة أدت إلى تعقيدات المشهد السياسي، وجعلت البلاد ترزح تحت وطأة (الدائرة الشريرة) لأكثر من ستة عقود زمنية، أي منذ الاستقلال. والغريب في الأمر أن هذا المصطلح لا وجود له في دول العالم سوى قِلَّة تتذاكى به مثلنا. لكن عوضاً عن ذلك عرفت الشعوب التسامح الاجتماعي، والذي يأتي تضميداً لجراح خلَّفتها حروب أهلية أو كوارث طبيعية أو دواعٍ عنصرية، وتقف أمريكا شاهدة على ذلك، بينما جاءت جنوب أفريقيا لاحقاً ورواندا حديثاً. كذلك عرفت الشعوب التسامح الديني والذي فرضته أسباب مماثلة كما حدث بين الشعوب الأوروبية. أما السياسة بشكل عام فممارستها تستند على أسس معينة منها ما سُمي نهج (الضوابط والتوازنات) Checks and Balances في النظم الديمقراطية، والحياد عنها يستجوب المحاسبة لا التسامح!

(2)

الملاحظ أن المُصطلح يظهر بعد زوال الأنظمة الديكتاتورية، أي في فترات الانتقال. في حين أنه يختفي في ظل الأنظمة الديمقراطية، بل يتضاءل حتى بعد زوالها. لأنه ليس هناك ما يبرره فالناس تحتكم فيها لدولة القانون، نسبة لانعدام الموت المجاني والانتهاكات الأخرى المتعددة. ويبدو لي أن ازهاق الأرواح وحجم الكوارث التي قام بها نظام الأبالسة على مدى الثلاثين عاماً، جعل الجهر بظهور المصطلح أمراً عصياً الآن، مع ذلك تسمعه همساً من سُفهاء العُصبة والمؤلفة قلوبهم. وهم يعلمون أن (عدالتهم) ساوت بين أهل السودان حتى في التقتيل الذي لم يستثن رقعة في البلاد. إذ جَرت الدماء أنهاراً في الجنوب حتى انكفأ على جراحه وانفصل. وبلغت أعداد الضحايا في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق أرقاماً تأرق لها المجتمع الدولي، وعندما لم تشبع شهيتهم من الموت ألحقوهم بالشمال والشرق، أما في الخرطوم فقد ضربت السلطة الفاجرة رقماً قياسياً في القتل ما زالت أعداده تترى!

(3)

في أزمنة الديكتاتوريات يتم التمهيد لترويج مصطلح (التسامح السياسي السوداني) بنفاق الممارسات المجتمعية. إذ يقتنص الحُواة الفرصة لاستغلال المناسبات – فرحاً كانت أم ترحاً – والتي تحدث بين الفرقاء، فتراهم يهرعون لمصافحة زيد أو عبيد بدعوى مشاركته السراء أو الضراء، بينما ذات الأيادي التي تتشابك تكون ملطخة بالدماء. وتأتي ممارسة رذيلة النفاق الاجتماعي تلك بزعم أنها تجسيد لفرية (التسامح السياسي السوداني) المزعوم. بينما الهدف منها التمكن في مفاصل السلطة، والتوهم بأن تلك الممارسة ستكون ترياقاً عندما تزول دولة الظلم. وهي على كلٍ وسيلة لممارسة رفاهية السلطة والتمتع بها. وعلى الرغم من كثرة الأمثلة في ما ذكرنا إلا أننا سنكتفي بآخر حدث في القائمة يمثل قمة النفاق الاجتماعي المُفضي للنفاق السياسي. فقد قام دكتور جبريل إبراهيم وزير المالية بمعاودة إبراهيم السنوسي وعلي الحاج في مستشفى يستبشرون. ويعجب المرء كيف دخلت المروءة قلب وزير في حكومة ثورة حتى يقوم بزيارة الجلاد قبل أن يزور ضحاياه؟!

(4)

ربَّ رمية من غير رامٍ، فهبطت علينا أمثلة أكثر سطوعاً في ممارسة النفاق الاجتماعي تحت مظلة (التسامح السياسي السوداني) المزعوم. ذلك ما تمَّ في حفل شواء جماعي لا يقِل سخفاً عما ظل يدور في مسرح العبث. ذلك لأنه ليس لأهل السودان ناقة ولا جمل فيه. فهم ببساطة لا يعلمون عن خباياه سوى ما طفح من ماء آسن. إذ اُطلق سراح (الشيخ) موسى هلال لكن الناس لا يعرفون لماذا اُعتقل في الأصل حتى يُطلق سراحه؟ بل هم لا يعرفون أنه كان معتقلاً أم ينعم بالحرية؟ ولا يدرون في أي سجنٍ كان قابعاً؟ وهل هذا السجن واحد من سجون الدولة المعروفة أم أحد الأقبية السرية التي تكاثرت، ولا يعلمون عنها شيئاً، إلا بعد أن تخرج منها جثة هامدة، مثلما حدث مع الشهيد بهاء الدين نوري؟ كذلك فالقوم يجهلون فحوى مشكلة هلال مع مَن مِن الكائنات؟ هل هي مع الدولة أم القوات المسلحة أم قوات الدعم السريع أم قائدها المُفدى أم مع جن (راكب جواد وشايل كلاش)؟

(5)

هنا يأتي دور (الغلوتية) كما تسميها الأمثولة السودانية الدارجة، فأرهف السمع يا رعاك الله. (الشيخ) موسى هلال كان مسجوناً منذ العام 2017م أي عندما كان نظام الطغمة البائدة يؤدي فروض الولاء والطاعة نيابة عن السماء، وأنه مسجون بمعية أربعة من أبنائه البررة، وعلاوة على ذلك معه ثُلة من رجاله المخلصين. وتقول الرواية إن حسبو عبد الرحمن مساعد الرئيس المخلوع هو من قام بدور محامي الشيطان لصالح أناس وراء حجاب حينها. لكن حسبو هذا أو السجان السابق يقبع هو نفسه في سجن كوبر الآن، وسجنه لم يجُبُّ قضية هلال. فتساءل الناس هل كان (الشيخ) في السجن (الافتراضي) بسبب ما اقترفت يداه من خطايا في النظام البائد أم خطاياه تلك ورثتها الحكومة الحالية؟ كما أن ظهوره بصحة جيدة هل يعني أنه سيكتفي بالعفو تأكيداً لمنهج (التسامح السياسي السوداني) المزعوم أم أنه سيقاضي سجانيه (المفترضين) على الفترة التي قضاها مسجوناً، ويطالب بتعويض مادي أسوة بالدول المتحضرة؟

(6)

ما إن سرى خبر إطلاق سراح الرجل حتى أصبح بيته محجاً لكثير من الطائفين، الذين جاءوا يتسابقون من كل فج عميق، وتقدم الصفوف حتى الذين نوقرهم ليباركوا له سلامته. وكانت الصور التذكارية حاضرة في مشهد لا ينقصه سوى توقيعات المُزار (atuograph) كما نجوم هوليوود. علماً بأن الذين هرعوا لممارسة النفاق الاجتماعي المفضي للنفاق السياسي، هم أنفسهم الذين كانوا يذمون هلال بوصفه أحد أزلام النظام السابق الوالغ في جرائمه كيفما اتفق. فهل قالوا للشعب الصابر ما إذا كانت سنوات الاعتقال (الافتراضي) مسحت خطاياه التي كانوا يزعمون؟ وهل بمقدورهم اقتلاع البراءة من أفواه الذين توسدوا الثرى في الرحلة الأبدية؟

(7)

ولأن المصائب لا تأتي فرادى، لم يدع (الفريق) عبد الرحيم دقلو الفرصة تمضي دون ممارسة (الاستربتيز السياسي) كما العهد به وشقيقه. فارتجل كلمة عصماء حطَّت الطير على رؤوس سامعيها، بما تضمنته من إيحاءات عنصرية بغيضة وغير مسؤولة وتنم عن جهل فظيع بتركيبة هذا البلد الاجتماعية والثقافية، مما استثار غضب الكثيرين فعبَّروا عن استيائهم شعراً ونثراً. بيد أن مثل هذه اللغة لا ينبغي أن تستدعي الغضب وحده، وإنما المسائلة بكشف الغموض الذي اكتنفها، وكَحَت ما في الصدور من صديد لكي تبرأ جراح هذا الوطن. الغريب في الأمر كأنما هذه البلاد لم يكفها ما فيها من بلايا ورزايا، فقبل أن نطوي الصفحة فإذا بالقائد (الشيخ) المفرج عنه يقول لا تحلموا بغدٍ خالٍ من السلاح، فأصدر البيان رقم واحد ودعا فيه لإعادة تكوين (قوات نهج الصحوة) ولمثل هذا يقول مَثل في تغريبة بني هلال: (وكأنك يا أبو زيد ما غزيت) وبخ بخ بخ!!

آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!!

[email protected]
عن الديمقراطي

‫8 تعليقات

  1. # انها دولة الموز!!! القاتل فيها طليقا!! والمسالم فيها ذليلا!!!!
    # انها دولة اللا قانون!!! بل دولة الحركات المسلحة والمليشيات..من ال دقلو…وال ابراهيم…وال مناوي…واخيرا ال حليمة أبكر التي احتلت قوامتها بالأمس ميدان عقرب ببحري!!!
    # انها دولة الفوضي…التي يرأسها جنرالات الخلاء ..الفريق ال دقلو…واللواء حليمة أبكر!!! بل حكومة الفاقد التربوي!!!!
    # انها دولة النهب المصلح لكل موارد البلاد ..فالذهب للامارات.. .والثروة الحيوانية والمحاصيل لمصر!!!
    # اصحي يا ترس….لم تسقط بعد!!!

  2. اصلا ثقافيا وعلميا السودان تم بناوه فكريا علي يد مرضعين ينتمون للاحتلال المصري البريطاني فمافي داعي للفلسفة نحن في شرق السودان قبليون لا نهتم بالسياسة عمال مهنين وتجار ومن يمارس السياسة تربية بيروقراطية بريطانية مصرية تحاول اقحام حلول غير مناسبة للتركيب النفسية والعقلية للشعب السوداني. لذلك تخويننا سياسيا نظرة خطأ من يخون هم من رضعوا العمالة ويريدون حلب البلاد لصالح اسيادهم سوا كانوا الأمة ام الاتحاد ام غيرهم.

  3. (وتأتي ممارسة رذيلة النفاق الاجتماعي تلك بزعم أنها تجسيد لفرية (التسامح السياسي السوداني) المزعوم. بينما الهدف منها التمكن في مفاصل السلطة، والتوهم بأن تلك الممارسة ستكون ترياقاً عندما تزول دولة الظلم.)
    والله لما الزول علق على تشنجك هذا بقوله:
    وان سفاه الشيخ لا حلم بعده..
    ظللت يومين أضحك واتأمل بلاغة الرجل. فعلا التسامح قيمة انسانية لا يفهمها الا الشباب فقط.

    1. يا محيسي
      الذين يملأون الساحة ضجيجا حكاما سابقين وعطالى السياسيين ومعارضين ومقاتلين وبعد مجاهدات الشباب والشابات ونجاح ثورة ديسمبر المجيدة في ازاحة الانقاذ سلميا لو كانوا صادقين لطفقوا مسحا لآيديهم الملطخة بدقيق الظلامات المرتكبة في حق الوطن والمواطن ولتواروا بالحجاب خجلا مما اقترفته أيديهم على الأقل من دماء سالت وأموال ضاعت ودولة بادت ، فمن أين لهم ثمن عشرات ومئات المطايا ذات الدفع الرباعي؟ ومن أين لهم أسلحة البر والأجواء ؟ بل السؤال الأخطر كيف يمولون رواتب واعاشة مليشياتهم ؟ ولنا في التاريخ قصة مقاتلي أحد الأحزاب التقليدية عندما عادوا بعد ثورة أبريل مثل وعبرة (فبعد سقوط مايو وعودتهم توقف الدعم الخارجي وأدرك الحزب بعدها الورطة الموروطة فقال لهم من أين لي ثمن الحلوى فأشريها؟ وكانت مشكة كبيرة . أما القادمين الجدد فقد كانوا أذكى من سابقيهم فقفزوا عنهم في حصان الاستوزار وحملوهم على ظهر حمار الدولة) والتاريخ لا يرحم وهو بالتأكيد يمكن أن نطلق عليه المراجع العام الغير معين من فبل الحكومة وحتما سيكتب يوما ما تلك السيرة المسرورة فبلدنا لا يعرف الأسرار .

  4. التسامح لا يعني الافلات من العقاب فالـجرم هنا قتل و ضياع وطن …..!! نخب فاشلة

  5. الله الله يا المعلقين من امثال وطن الجدود ايم انتم عندما كانت الدولة المليشياوية الاسلامية تصنع وتبدع في صناعة هذه المليشيات للقتل علي الهوية في دارفور ( الم تفهموا مقولة كاتب الانقاذ : عندما قال جنجوبدك غلب اجاويدك /حسين خوجلي) وهذه الماكينة مدورة منذ ما قبل انفصال الجنوب ( القوات الصديقة ) وهذه هي الاساليب الملتوية لعدم الاعتراف بالقضية السياسية وتستمر الماكينة تسحق المتمرد من الداخل حتي يصل مرحلة الافلاس الثوري وتخزين القضية السياسية لاجل قادم وهذه الاساليب ارتدت بالساحق الماحق علي النخبة الحاكمة اخيرا لانها في الاساس غير جاد في حل المشكلات السياسية وبدت تتمظهر تداعياتها بشكل غريب وعلي غير ما تهوي النخبة اولي الباس والحظوة . كان يمكن للدولة السودانية ان تواجه التمرض من خلال الجيش السوداني لا ان تاتي بشيخ قبيلة من نفس المنطقة وترصع اكتافه بالرتب العسكرية وتقنن ذلك بل وفي مرحلة لاحقة تستوزه وفجاة يدب بينكم خلاف وتريد ان تعود المياه الي مجاريها (ما هو الضمان ) انت رسخت في ذهن هذا الشيخ ان الامور هكذا يعني بكل بساطة (رتبة عسكرية واموال وحماية بامكانات الدولة وهلم جر) وعندنا مثل دارفوري يجسد هذا المعني : (لا يمكن ان تربي ليك كعونة /ضفدعة تحت الزير و تامن ازعاجها ) ما فعلته النخبة السياسية وعلي مدي ما بعد الاستقلال سيستمر زمنا ليس بالقصير وهذه علي افتراض استمرار السودان موحدا و محاولة اعادة تدوير الافكار القديمة لا ينفع ابدا
    اما المتمردين علي سلطة الدولة ونظام الدولة هم لا ينكرون ذلك وليس كل متمرد عميل او غواصة لجهات حزبية بالداخل – العمالة في السودان دائما لا تعاني الشح والذهاب الي حيث المتمرد لتعقد معه الصفقات بل العمالة متوفرة لهم من داخل كابينة القيادة دائما ومثال صغير لا الحصر : طه عثمان الحسين وووووو ولماذا بعيدا عن ان هنالك احزاب تاريخية لها موجهات وافكار الانضمام الي دولة مجاورة -ولكن ماهي التعريف الدقيق للعمالة ؟ وكاتب المقال فتحي الضو كان ثاقب النظرة وهو علي مدي الثلاثين عام يكافح ويناطح
    ليس من اجل نقد هذا او ذاك بل تحديدا من اجل صناعة الدولة علي اسس علمية قانونية سليمة حتي تنعم الاجيال القادمة بالسلام وليس الهيمنة

  6. لك انسان بالفطره وطن ينتمى ليه .. ومجعل الله فى جوف من قلبين فالسودانيين بحبون وطنهم والشادين مثلهم وللاسف الشادين والارترين اتوا بهم الكيزان وسيدوهم على الغرابه لازللالهم وابعادهم عن الحكم وجهلا منهم بان الشادين دوما هيكونوا مطعين لشعروهم بالدونيه لوطن ليس ينتمون له ولاكن المال والسلطه خلتهم يغدرون بهم واصبحوا يفكرون بالحواكير التى تم تهجرير الاخرين منهم

    فالسودان اصبح شائك بجد متجديدا من ناس الشمال ” جعلين وشوايقه” وللاسف الشادين والارترين اليومين ديل الشباب الهايم فى صالات خدمات الجمهور جلهم غرباء وسوف يصبحون عساكر السودان ….وعلما شباب السودان لايحب العسكر بل حقيقه حتى القائد السودانى يقول ليك انا ولدى ماعيزوا يكون عسكرى …السودان بالانانيه انهار لاحمدوك ولا برهان هيوقف التدهور لا بعراك سودانى لوضع الحرفوف فوق النقاط والقاء الرقم الوطنى وازاله الادارات الهليه التى تم تعينهم من قبل الكيزان واستفلاهم الغرباء فى تعزيز وجزدهم واحدق عليهم اموال الارتزاق واصبحوا بوابات الكيزان الخلفيه حيث اتوا بررجت الكيزان الخلفيه واصبحوا من بيت سياسى الى سياسى وللاسف وزراء الثوره يتبرعون عن طريقهم للمواطين اين لجان الخدمات والتغير وناس الموقومه ….حكومه حمدوك حكومه الجهلاء بامتياز ….

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..