العالم هجر الحروب وغناء الحماسة ..

محمد حسن شوربجي
من سوء حظنا اننا ابتلينا بأنظمة شموليه سيطرت على كل حياتنا.
فلقد حكم العسكر السودان طويلا
عبود والنميري والبشير وبرهان .
فقرنوا حياتنا العامة بالبارود وازيز الرصاص والانقلابات.
لينتهي بنا المطاف في القرن 21 بالعسكر ايضا برهان وحميدتي والكباشي وعبد الرحيم وكتايب الظل .
ومازلنا وحتى يومنا نحارب طواحين الهواء وكما دون كيشوت.
فعسكر الكيزان أضاعوا علينا ثلاثون عاما ملؤها القتل والحروب والابادة.
وقصص شهيد وعرس شهيد.
وغزالة وحديث غزالة أن اذبحوني.
و قرود وادغال.
واليوم ها هي الخرطوم من جديد .
حركات ودوشكات ومجلس عسكري.
وكثير جنود من ورق نراهم في شوارع بلادي
يوزعون الرتب الخلوية فيما بينهم .
وكل المدينة شارات ونجوم ورشاشات ومجنزرات ودوشكات تمشط الأزقة.
وهنا تذكرت قصيدة الشاعر الروسي بولات اكوجافا “جنديٌّ من ورق”،
وظنّي أنّه كتبها حين كانت موسكو تعج بالمعسكر كالخرطوم.
و كان الجندي الروسي فيها مكروها وغير محبوب للشعب السوفيتي حيث قال الشاعر :
عاشَ على هذهِ الأرضِ جنديٌّ
جميلٌ ومِقدام
لكنّهُ كانَ لُعبةَ أطفالٍ،
فهو جنديٌّ من ورق.
أرادَ أن يُعيدَ صياغةَ العالم
كي يعيشَ سعيداً كُلُّ من فيه،
لكنّهُ هو نفسُهُ كان مُعلّقاً بخيط؛
فهو جنديٌّ من ورق
كانَ سعيداً أن يموتَ من أجلِكمُ
في النارِ والدُخان أكثر من مَرّة،
فهو جنديٌّ من ورق.
لم تثقوا بهِ فتسلِّموهُ أسراركم المهمّة.
لكن لماذا؟
لأنّهُ كانَ جندياً من ورق.
وها هو ذا يأسى لمصيرهِ،
لحياتهِ التي لم تكن هادئة،
نادى طالباً:
“نار! نار!”
ناسياً أنّه جنديٌّ من ورق.
في النار؟
فليكن، امضِ، هل ستمضي فعلاً؟
وانطلقَ إليها،
فاحترقَ فيها،
وليس لأجلِ المال:
لقد كانَ جنديّاً من ورق.
واليوم وكأني اسمع نفس القصيدة وبلغات بلادي المختلفة.
فالجندي في المدن السودانية أصبح غير محبوب وقد سكن المدينة يضرب ويقتل احيانا ذلك الأعزل المسكين.
والكل يتمناه بطلا في جبهات القتال في حلايب وشلاتين والفشقه.
ولا يريدونه في القطارات والباصات والأسواق ومسالخ المدينه .
وقليلةٌ جداً تلك النصوص التي تهجو الجنود والحروب في بلادنا خوفا.
ولكم قصيدةِ زهير بن أبي سُلمى التي وصفَ فيها الحربَ وصفاً مُدهشاً :
وما الحربُ إلّا ما علِمتمْ وذقتُمُ / وما هو عنها بالحديثِ المُرجَّمِ
متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً/ وتضْرَ إذا ضرَّيتُموها فَتَضْرَمِ/
فتعرككم عَركَ الرحى بثفالها/ وتلْقَحْ كِشافاً ثُمّ تُنتجْ فَتُتِئمِ
فالسودان اخوتي لم يهنأ بالسلم طويلا.
فلقد ظلت الانقاذ تخوض الحروب شرقا وغربا وجنوبا ودون طائل.
وحتي يومنا لا يدري احد ماذا استفاد شعبنا من كل تلك الحروب التي كانت.
ومن جديد بدأت طبولها تدق شرقا مع الجارة إثيوبيا.
ليخرج علينا أهل الحماسة لينعشوا اسواقهم ويتغنون من جديد :
انا ليكم بقول كلام دخلوها وصقيرها حام
قرقر ملى للوسادة برقو لشال بي مكادة
ديل جنيات النقادة سيد الدار فى السيادة
انا ليهم بقول سلام دخلوها وصقيرها حام
قرقر حبس الدرب وربط الهوى والشرق
ولتبدأ من جديد ارتال الموتى وبكاء الأمهات.
ولا يعلم هؤلاء المساكين ان العالم المتحضر قد هجر الحروب إلى غير رجعه.
ونحن مازلنا نعشقها بثوبها القديم الأجرب.
فالسمة المتوقعة لحروب المستقبل هي “حروب عن بعد”،
حروب عبر شاشات الكومبيوتر و من خلال منصات التحكّم بالأنظمة المسيّرة المختلفة في الجو والأرض وسطح وقاع البحر.
فلا جيوش تحمل الرشاشات لتحارب.
ولا غناء حماسة.
والأفضل لنا أن نتفرغ للبناء والتعمير.