
شهدت صناعةُ السِّينما السُّودانيَّة انتعاشاً قبل جائحة كورونا. كان هذا جليَّاً خلال مهرجان السُّودان للسِّينما المستقلَّة الذي أقيم في الخرطوم في يناير 2020، والذي تشرَّفت بحضوره. وقد تضمَّن المهرجان أعمالاً حديثة لصانعي أفلام سودانيِّين تحدَّت أفلامهم الأعراف الرَّاسخة فيما يتعلَّق بتصوير الموضوعات السِّياسيَّة والثقافيَّة.
أثَّرت الأفلام السًّودانيَّة في السَّاحة السِّينمائيَّة العالميَّة في الآونة الأخيرة، ففي عام 2019 فاز فيلم ” الحديث عن الأشجار” للمخرج “صُهيب قسم الباري” بعدَّة جوائز في المهرجانات السِّينمائيَّة الدَّوليٍّة، بما في ذلك مهرجان “برلين السِّينمائي الدَّولي التَّاسع والسِّتين”. أيضاً أخرج أمجد أبو العلاء فيلم “ستموت في العشرين”، وهو فيلم مثير يمتزج فيه الفولكلور السُّوداني التقليدي بالنَّهج السِّينمائي الحديث. وهناك أيضاً فيلم “تسلُّل الخرطوم ” والذي يروي قصَّة أوَّل فريق نسائي لكرة القدم في العاصمة السُّودانيَّة، وقد قامت بإخراجه “مروة الزَّين” ، وأظهر أنَّ النِّساء السُّودانيَّات شاركن أيضاً في النهضة السِّينمائيَّة.
أجبر الوباء صناعة السِّينما في السُّودان على التوقُّف. لكن، ربما يوفِّر هذا التوقُّف فرصةً للتفكير في كيفيَّة جعل طفرة الإبداع السِّينمائي السُّوداني تنمو لتصبح صناعة دائمة يمكن أن تساهم بجزء من سودان مستقرٍّ سياسيَّاً (واقتصاديَّاً).
إذا نظرنا إلى الكيفيَّة التي طوَّرت بها البلدان الأخرى صناعة السِّينما الخاصَّة بها، فغالباً ما نجد ارتباطاً بموقع جغرافي ما. ولعلَّ المثال الأكثر وضوحاً هو الولايات المتَّحدة، حيث تشير كلمة “هوليوود” على الفور إلى وجود صلة بأقوى مشهد سينمائي في العالم. غير أنٍّ دولاً أخرى، ربما أكثر قابليَّة للمقارنة مع السُّودان، ربطت أيضاً إبداعاتها السِّينمائيَّة بمواقع محدَّدة، كما أنَّ منطقة “تشينتشيتا” الإيطاليَّة، الواقعة في ضواحي روما، خرجت من الحرب العالميَّة الثَّانية سالمة لتكون موقعاً للإنتاج الإيطالي والدَّولي، ومَجمَعاً يقف مثالاً له استوديو فيديريكو فيليني 5 الشَّهير حيث أخرج بعضاً من أهمِّ أفلامه.
تقع خارج منطقة “الخرطوم/ أم درمان” بعض المواقع الثقافيَّة الاستثنائيَّة التي يمكن أن تدفع بعجلة الإنتاج السِّينمائي السُّوداني إلى الأمام. أحد هذه الخيارات هو مدينة “مروي” القديمة التي تقع على بعد حوالي 200 كيلومتر شمال شرق الخرطوم ، وتتكوَّن من مجمع يضمُّ أكثر من 200 من الأهرامات التي يعود تاريخها إلى الوقت الذي كانت فيه المدينة مركزاً لمملكة “كوش”. هذا مجرَّد مثال واحد على المواقع السُّودانيَّة التي تجمع بين الصُّور المذهلة والمناخ الجاف الملائم للإنتاج.
وإذا أراد صُنَّاع السِّينما السُّودانيَّة لها أن تصبح حركةً فنِّيَّة ذات مغزى ثقافي، فمن الضروري أن يقوموا بإخراج وإنتاج القصص السُّودانيَّة بأنفسهم.
وهنا يجب أن نعالج خطأ تاريخيَّاً واجب التَّصحيح: فالفيلم البريطاني “الخرطوم ” (1966) للمخرج باسيل ديردن، وبطولة تشارلتون هيستون ولورنس أوليفييه، هو فيلم مليء بالمعلومات التَّاريخيَّة غير الدَّقيقة، كما أنَّه يتَّسم بالعنصريَّة الشَّديدة والمتحيِّزة ثقافيَّاً ضدَّ الأفارقة، ويظهر أوليفييه في الفيلم بوجه أسود على أنَّه المهدي – الزَّعيم الدِّيني المسلم – والذي صوَّره الفيلم باعتباره تجسيداً للشَّر ويسعى لقتل كلِّ شخص أبيض يراه. وربَّما كانت هذه هي المرَّة الأخيرة التي نظر فيها إنتاج دولي كبير إلى السُّودان بكلِّ التفاصيل، فبالإضافة إلى تصويره جزئيَّاً في استوديوهات باينوود (الموقع الرَّمزي للسِّينما البريطانيَّة)، كانت هناك صفعة أخيرة في وجه السُّودانيِّين، وتتمثَّل في أنَّه تمَّ تصوير المَشاهد الخارجية في مصر. وعلى حدِّ علمي، لم يشارك أي سوداني في إنتاج فيلم “الخرطوم”.
يُمثِّل السُّودان أحد أكبر البلدان في إفريقيا، ويتمتَّع بتراث ثقافيٍّ غنيٍّ ومتنوِّعٍ يفيض بالقصص التي تستحق أن تُروى. والسُّودان بالتأكيد لديه العنصر البشري والمواهب لترجمة هذا التراث الثَّقافي إلى سينما رائعة.
ربَّما لا تكون صناعة السِّينما في السُّودان جاهزة، بعدُ، لإعادة إنتاج كبير مثل “الخرطوم “؛ إذ ربَّما يكون استثماراً محفوفاً بالمخاطر للغاية بالنِّسبة للوضع الحالي للسِّينما السُّودانيَّة. أيضاً لا أحد يعرف كيف ستُصنع الأفلام والجائحة ما تزال رائجة.
لكن، ليس هناك شكُّ في أنَّه بعد انتهاء الحجر المفروض على البشريَّة بفعل جائحة كورونا، سيكون صانعو الأفلام في السُّودان على استعداد لوضع بصمتهم في العالم، فلقد حان الوقت لمنحهم الفرصة للقيام بذلك.
………………………
(1) “ريكاردو بريف” صانع أفلام أرجنتيني. تمَّ تصوير فيلمه الرِّوائي الأخير “العودة إلى الوطن” جزئيَّاً في السُّودان، وبُثَّ في تلفزيون السُّودان القومي.