مقالات وآراء

الجنينة أردمتا حين نبحث عنه تحت المجزرة

عبدالرحمن حسين دوسة

فوق الأفق الغربي سحاب أحمر لم يمطر
حرائق وضجيج وشياطين
يا ويل الحرب الملعونة
أكلت حتى الشوك الأسود

“محمد الفيتوري”

الأنباء الواردة من مدينة الجنينة حاضرة دار أندوكا أكثر من مزعجة وأشد حزناً وألماً. لقد غرقت المدينة في عنف مهوس جامح، مليشيات من كل جنس ولون تقتل بإفراط وبلا رحمة، عصابات تغتصب بنهم حيواني فظ وحكومة عاجزة حتى عن حماية شرف وكرامة عسكرها.

مشهد حزين يتخذ شكلاً هستيرياً حيث القتل على أساس السحنة واللكنة وهو نوع من القتل لم يألفه السودانيون طوال تأريخهم، والله يكدب الشينة إن قلنا أن المنطقة وربما السودان بأكمله ينحدر سريعاً نحو إصطفافات يضيق فيها أمل العيش المشترك، لقد غدت البندقية الممكن الوحيد في سودان اليوم.

لا نضيف جديداً حين نضيف بأن الصراع في دارفور قد تحول بأيدينا – لا بيدى عمرو – من صراع هدفه الاستحواذ – أرضاً أو مالاً أو سلطة – الى صراع غايته تدمير واجتثاث الآخر.

العنصر أو المتغير الأبرز في هذه الإبادة المتبادلة أن أيادي الزبير باشا وأحفاده تبدو غائبة عن المشهد، ولكن المفارقة أن المهمشين أيضاً قادرون على استنساخ زبيرهم الخاص سواء من بين صلب الجنجويد أو ترائب الزرقة لتستمر حرب البسوس الى ما لا نهاية ويبدو أن زبيرنا أجلف وأوحش من الباشا الأصلي. والله “إنها أيادينا نقطعها بأيادينا وأجنحتنا نجزها بأسيافنا”.

بحت حناجرنا من العويل بضرورة إخراج السلاح من معادلة الحكم والسياسية وأن تظل الدولة – بالمعنى الذي نعرفه ويعرفه العالم المتمدن – المحتكرة الوحيدة والحصرية للعنف والسلاح إلا أن الحكومة تمادت في تكريس شرعية العنف ومافيا المحاصصة بين أجسام غير صحية همها الحرص على تكبير الكوم حتى ولو كان ثمنه استمرار إنزال الموت بأهلنا البسطاء والدفع بهم خطوات الى الهمجية والبهيمية.

برهان ذلك أن مواطنية المواطن الأعزل في الجنينة وربما في العاصمة أيضاً تقل عن مواطنية المواطن المسلح في جبل كردوس أو فوربرنقا أو حتى مواطنية توم هجو طالما قيل أنه يمتلك مسدسا، إذ أن المسلح لديه فائض قوة يوظفها متى ما شاء ضد من يرى أنهم فائضين عن الحاجة ولا لزوم لهم خاصة أذا ما كانوا عزل أو خارج عالمه ودائرته الخاصة التي كثيراً ما يشار إليها ب “الكيان” الذى هو فوق الوطن، وهذه القوة الفائضة – حتى إشعار آخر – هي ما تضمن لك ولأسرتك حصة من الكعكة.

في عنفوان غروره بقوة ميلشياته ودقة تنظيمها كان زعيم مافيا الخمر الحمر المدعو “بول بوث” يقف كل صباح فوق دبابته الروسية متأبطاً كلاشنكوف صيني ويصرخ أمام الشعب قائلاً:

Keeping you is no benefit, killing you is no loss.

إن لم نضع حداً لهيمنة واستفحال مافيا وعصابات الجريمة المنظمة التي تتمدد ميليشياتها ونحصر السلاح في يد الدولة بأعجل ما يمكن، ففي أوساطنا أكثر من بول بوث وسيتناسلون أميبياً في كل مدن السودان.

في إيطاليا أرهبت مافيا الألوية الحمراء الدولة الإيطالية بأكملها وتحكمت بمصائر الشعب وسيطرت على أكثر من نصف موارد الدولة، بنت سجونها وأنشأت محاكمها واستخباراتها بل وخطفت واغتالت الدو مورو رئيس الوزراء وقد قيل أن الذبابة لا تتجرأ دخول إيطاليا من دون إذن الألوية الحمراء.

انبرى القاضي “جيوفاني فالكوني” قائلاً ” المافيا ليست ظاهرة لا تقهر فهي واقع إنساني ومثل كل واقعة إنسانية فهي لها بداية وسيكون لها نهاية”. ابتدع في القانون ما عرف بمبدأ “كوزا نوسترا” حيث قلب المعادلة القانونية الشائعة بأن “المتهم برئ الى أن يثبت إدانته” الى أن زعماء المافيا والمليشيات مذنبون ومسئولون مباشرة عما يحدث على الأرض وعن أفعال أتباعهم ومنسوبي تنظيماتهم وعليهم إثبات براءتهم.

قام باعتقال ومحاكمة أكثر من اربعمائة من زعماء المافيا المتواجدين بالعاصمة فاغتيل في اليوم التالي بعبوة ناسفة بلغت الطن من مادة التي ان تي لكن المافيا اختفت الى الأبد. كان يقول “الموت لم يكن أكثر أهمية بالنسبة لي من زر جاكيت، فأنا أنتمى لإيطاليا الدولة والقانون لا إيطاليا المافيا والمليشيات”

زعماء المليشيات الذين يتحكمون في موت إنسان دارفور معروفون بالاسم والصوت والصورة، تحميهم الدولة ومؤسساتها وقوانينها واتفاقاتها، يأكلون ويشربون ويمشون في الأسواق وإذا كانت الدولة جادة وتملك الإرادة فالأمر لا يحتاج إلا لشجاعة جيوفاني، أما إذا كانت غير قادرة فلتصارح الشعب ولا داعي لمسح الدهن فوق الصوف فنحن أيضا نرغب الانتماء لسودان الدولة والقانون لا سودان المليشيات.

الشاهد، وأنا أشاهد جثامين الضحايا موشحين بالبياض ومسجين على الأرض تيقنت أن ما خيب آمالهم وآمال أي سوداني لديه أدنى احترام لمعايير الوطنية والأخلاق أن لوردات الحروب وزعماء المليشيات قد باعوا لهم الوهم، إذ تبجح هؤلاء كثيراً بأن لديهم جيش عرمرم يسد المشرقين ويصارع ذو القرنيين بزبر الحديد، قوة قادرة على حماية العاصمة وتحرير الفشقة وربما القدس لا مجرد حماية الأهل فقط وما كنا ندرك أن ذلك كان كذباً بواحا وماسورة أكبر من ماسورة عثمان كبر، فمن يبيع الرتب العسكرية في أزقة مايو والحاج يوسف وكمبو كديس تحت طبالي الأقاشى والقودقودو والترمس غير مؤهل أخلاقياً لعمل وطني من هذا النوع.

ثم يلتقي مجلس الأمن والدفاع في اجتماع ملوث مع حواضن وشركاء ملوثين ليخرجوا ببيان هزيل ومريب يعلنون فيه حالة الطوارئ وهي حالة يعيشها المواطن بتفاصيلها وآلامها منذ عهد الفريق الدابى في التسعينات فما الجديد الذى نضيفه سوى التأكيد على استمرار حماية الجناة أو في أحسن الأحوال غياب رجال دولة في مستوى التحديات، قادرون على توليد افق وطني جديد ويملكون الرؤية اللازمة لتأسيس الدولة.

الجنينة أردتما أجمل وأحلى من أن تحرق ولكن في المثل الدار فورى “التيس ما بعرفي حلاة راسو إلا في الكلول” وما أقسى وأحر نار الكلول.

رحم الله أهلنا الطيبين ونسأل الحق تعالى أن يأخذهم برحمته وفضله وكرمه فما قلنا سوى بعض حق الضحايا علينا وبعض حق أنفسنا علينا كي لا نغدو في الغد ضحايا هذه المافيا ذات الرؤوس المتعددة.

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..