مقالات متنوعة

بيوت غير آمنة

حمّور زيادة

يخاف كثيرون من الحديث عن الفيل داخل الغرفة. ربما يقدمون لمؤامرة الصمت التي يفضلونها تبريرات تبدو طيبة على شاكلة “سمعة المجتمع”، أو التقليل منها بالقول انها مجرد حوادث متفرقة لا تستدعي التركيز عليها.
لكن حادثة الطفلة سماح التي تفجرت في نهاية مارس الماضي جعلت الصمت أمراً مستحيلاً.

بحسب منظمة الصحة العالمية فإن واحدة من كل ثلاث نساء حول العالم تعرضت للعنف المنزلي. هذه نسبة عالمية من الصعب الإفلات منها بحجة أعراف مجتمعنا وتقاليده. وتدعم ذلك الإحصاءات المحلية. فبحسب موقع عرب باروميتر في احصاء للعام 2018 – 2019 فان 57% من البيوت السودانية بها حالات عنف منزلي.
للعنف المنزلي عدة أنواع حسب تعريف الأمم المتحدة. منها العنف العاطفي، مثل اطلاق الألقاب المهينة. ومن أنواعه العنف النفسي، مثل الترهيب أو فرض عزل عن محيط العمل او الاسرة او المدرسة. ومنه الإساءة المالية، مثل جعل الفتاة معتمدة مادياً على شخص آخر يتحكم في مصاريفها الشخصية وفق طاعتها واذعانها له. ومن انواعه أيضاً العنف الجسدي، وهو ما يشمل الصفع والضرب والتعنيف الجسدي بأشكال مختلفة.

اذا تتبعنا الأشكال التسعة المعروفة للعنف المنزلي فلن نجد بيتاً يخلو منها. لكننا فقط نطلق عليها مسميات مرضية للعقلية الذكورية، مثل قوة الشخصية، أو الحسم، أو “راجل حاكم بيته “.
تعفي تراتيبية المجتمع الذكوري الرجال من العبء النفسي لتحمل جريمة العنف المنزلي. فخوف الزوجة من تعنيف زوجها لها ولو بالعنف اللفظي لو خالفت أوامره يعتبرها المجتمع محمدة للزوجة المطيعة. وأي حديث عن هذا الترهيب، وفزع الزوجة لعمل ما يريده زوجها خشية غضبه أو تعنيفه، يعتبر تهديداً لقيم الأسرة التي تصب في صالح الرجل. لذلك يفتح الرجل المعنف فمه في دهشة حين يسمع عن العنف المنزلي ويسأل في تعجب “أين هو هذا العنف؟ زوجتي تطيعني لأنها زوجة صالحة”. يدعم المجتمع هذه الكذبة، على حين لا يسمح للزوجة بالتعبير عن خوفها وعن الأذى الذي تتعرض له.

بحسب عرب باريوميتر في احصاء لعام 2018 – 2019 فان 47% من السودانيات المعنفات يلجأن لنساء من أقاربهن. بينما يلجأ 8% فقط إلى الشرطة.
يعمل التواطؤ المجتمعي في صالح الرجل بقوة في هذه النقطة أيضاً. فغالباً ما تكون النصيحة الموجهة للمعنفة أن تطيع والدها/أخوها/زوجها.
تحكي احدى المعنفات ان زوجها بدأ في ضربها فهربت الى الشارع. فطاردها، مما لفت نظر أحد المارة. تدخل المار ليفصل بينهما فصاح الزوج انها امرأته. فتراجع المار الصالح ونصحه أن يدخلها البيت “منعاً للفضائح”.

هذه قصة مكررة. لا أعتقد ان قارئ هذا المقال سيجد في ذاكرته حادثة واحدة لزوجة أو أخت تعرضت للضرب فنصحها الناس باللجوء الى الشرطة لحمايتها. دائماً ما تكون النصيحة ذات شقين. الطاعة، والبعد عن الفضيحة. لذلك فإن المطلوب من المرأة أن تعاني في صمت. وإذا تحدثت فانها تحمل أيضاً عار فضح أسرتها!
في حادثة الطفلة سماح تعالت أصوات كثيرة تلوم الحركة النسوية التي طاردت القضية. بل ذهبت بعض الأصوات إلى ان من حق الأب تأديب ابنته حتى بالقتل. هذه تراتبية قائمة لا يُسمح بتهديدها حتى لو أراقت دماء.
لذلك انزعج الذكوريون حين حمل الموكب النسوي في 8 ابريل لافتة كُتب عليها “بيوتنا ما أمان”.

حاول الإنزعاج الهروب لليوتوبيا السودانية المتوهمة التي تنفي وجود العنف. وهو وهم تكذبه الإحصاءات المتاحة، والتي هي أصلا ترصد فقط جزء من الحالات التي تستطيع الحديث.
تحكي لي احدى الفتيات كيف تعرضت للضرب من شقيقها بسبب خلاف منزلي عادي بينهما. وكيف غضب والداها حينما هددت بمقاضاته. قاطعها والدها ورفض الحديث معها. بينما عنفتها والدتها وأعلنت انها ستلعنها و”تديها عدم العفو” ان جرؤت على فضحهم.
يتزامن مع هذا التواطؤ المجتمعي غياب لقوانين الدولة التي تحمي النساء من العنف المنزلي. ليس في القانون الجنائي السوداني مواد تجرم العنف المنزلي. بل ان القانون الجنائي لسنة 1991 يخفف عقوبة الأب إذا قتل ابنه.

تواطؤ مجتمعي، مع غياب قوانين للحماية، في وجود حالات عنف موثقة يصل بعضها إلى القتل، ويجد المجتمع الذكوري ما يكفي من الجراءة ليغضب من لافتة تندد من غياب الأمان في البيوت.

بالنسبة للمجتمع الذكوري فان توفير الحماية للنساء داخل البيوت هو امتياز يتم استخدامه وفق الحوجة. لذلك فإن وجود قوانين للدولة في هذا الشأن تهديد لهذه الامتيازات. فالفتاة في البيت يجب أن تكون تحت رحمة حسن أخلاق والدها أو أخوها. وعليها أن تحرص على تغذية هذه الأخلاق بالطاعة والخضوع حتى لا تُسحب منها الحماية. لأنها إن فقدتها فلن تجد دعماً مجتمعياً ولا قانونياً. ويدعون ذلك “أمناً”!

حسناً .. لنمشي مع منطق “أنا لا أضرب زوجتي ولا أختي ولا ابنتي”. لنعطك نوط الرجولة ونمدحك. فماذا عن مئات – ربما آلاف – الضحايا للعنف المنزلي من رجال آخرين؟
إن كان بيتك من ضمن ال43% من البيوت التي ليس فيها عنف ضد المرأة، فإن هناك بيوتاً أخرى تحتاج فيها المرأة لقوانين صارمة وفاعلة لحمايتها.

تحكي احدى الفتيات إنها توجهت الى قسم الشرطة لتقديم بلاغ ضد شقيقها الذي ضربها، فصدف أن عرف ضابط الشرطة أحد أفراد اسرتها فاتصل به! وقدم القريب لاستلامها من القسم دون السماح لها بفتح البلاغ، وأعادها إلى منزلها لتواجه الضرب والتعنيف لأنها فكرت في الاستعانة بالشرطة.

قضية العنف المنزلي قضية معقدة متشابكة. تبدأ بالاعتراف بوجودها في الأساس، وباشاعة ثقافة مقاومتها والتعريف بها، إذ يمارس كثيرون هذا العنف وهم يظنونه من التصرفات الطبيعية التي تمنحها لهم ميزة الذكورة، بل ربما يعتبرونها محمدة، ولا تنتهي بالقوانين التي تحمى المرأة. إذ لابد أن تمتد لتغيير مجتمعي عميق، وإرادة دولة لحماية النساء.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..