حوارات

البروفيسور عبدالله علي إبراهيم: النظام القديم تداعى والنظام الجديد لم يولد

نعايش انقلاباً عسكرياً ما زال "يجند" فرقاً من جيوش الخلاء ليرجح كفته بوجه الثورة

الطريق وعر ولكن للثورة حفاظ مر

ليس بالثورة غير مكوّن واحد هو المدني أما العسكري فهو ضيف ثقيل وغول

أنا شيوعي معتق ورأينا قديم في ثورية مثل “قحت” التي نسميهم البرجوازية الصغيرة

كثير من تحركات الجماعات في الريف انتفاضة ضد أوضاع فرضتها “الإنقاذ”

إعلان الحرية والتغيير لا بأس به لكنه برنامج يتضور فكراً

عامان على انتصار الثورة وسقوط النظام الإنقاذ، ومازالت أبواب الأسئلة مفتوحة عن ما الذي تحقق وأين تكمن الإخفاقات؟ وهل هي نتاج لمعطيات صنعها الواقع أم إشكاليات متجذرة في الحركة السياسية السودانية؟ بالإضافة إلى ماهية المآلات المتوقعة للثورة. (الحداثة) حاولت أن تجاوب على هذه الأسئلة وغيرها، عبر هذه المقابلة مع الباحث والمفكر البروفيسور عبدالله علي إبراهيم، الذي قارب بشكل دقيق ما يجري الآن بما جرى في فترات انتقالية سابقة. كما حاول توصيف القوى الفاعلة في الراهن واتساقها مع الحالة الثورية، فضلاً عن مساهمته في تفسير أسباب صعود الخطاب القبلي، وحجم التحولات الاجتماعية التي أحدثتها الثورة.

أجرى المقابلة – محمد الأقرع

*عامان على انتصار الثورة في السودان، برأيك ما الذي تحقق حتى الآن؟

– أن يقتنع من ساهموا فيها أو من جاءتهم حين غفلة، أنها انتصرت. قضت على النظام القديم ككل ثورة.

*تحديداً كيف تقيّم أداء الحكومة في تحقيق أهداف الثورة؟

– أهداف الثورة ليست قائمة متفقاً عليها من الجميع. فالناس تصطرع بعد الثورة كما هو معروف حول الأهداف التي يعد تفسيرها معنىً وأجلاً، حسب كل مزاج سياسي. النادي السياسي السوداني لا يحب التحدث في السياسة بمصطلح الصراع. نحبها “إخوان إخوان”. وإن لم تكن كذلك ضربنا “الروري”: الصفوة وإدمان الفشل. ويسوء أداء نظم ما بعد الثورة خاصة لو كان استعداد المعارضين للنظام القديم خلال نضالهم من أجلها ركيكاً، كما كنا خلال ٣٠ عاماً. جاءوا بلا رؤية يقتاتون شعارات. فالنظام القديم تداعى والنظام الجديد لم يولد. وقال قرامشي إن ما بين موت القديم وميلاد الجديد تشيب لهوله الولدان.

*إعلان الحرية والتغيير كان بمثابة البرنامج السياسي المختصر للثورة، إلا أن البعض يرى أنه فضفاض ويتحمل جزءاً من الربكة التي تحدث الآن، ما تعليقك؟

– المشكلة ليست في البرنامج، فلكل برنامج عمومي تعريف، المشكلة أنه لم تجر تغذيته طوال فترة مقاومة الإنقاذ بحلقات علم مستقرة راتبة تقرب ما بين الفهوم بالتعمق في البحث. كان أول محاولة لتقريب الفهوم في الاقتصاد أخيراً هو المؤتمر الاقتصادي الذي هو علوق شد. حدث هذا ما بعد ١٩٨٥. مذاكرة في اليوم التالي للامتحان. يقولون ليسقط النظام وكل شيء سهل بعد ذلك. وتمر أيام المعارضة بلا حوار مهني وطني يلم شعث تباين الأفكار. لقد رأينا خلافاً مستحكماً بعد الثورة بين من هو راغب في التعاطي مع البنك الدولي وصندوق النقد وبين من يحرم ذلك التعاطي. أما كان بوسعهم حلحلة هذا الاستقطاب خلال ثلاثين عاماً في سمنارات ومطبوعات راتبة. لا أقول أن تتطابق الفهوم. لا. بل أن نبرى الأطراف الحادة في الاختلاف. البرنامج لا بأس به كما قلت. ولكنه برنامج يتضور فكراً.

*شهدنا خلال الفترة الماضية انقسامات للقوى السياسية التي كانت تقود الحراك، برأيك ما الأسباب، وما انعكاس ذلك على نجاح الفترة الانتقالية؟

– اختلفوا خلال معارضتهم للنظام خلافاً محزناً في اتحاد طلاب جامعة لخرطوم مثلاً. فازوا به في ٢٠٠٩ ولم يحسنوا إدارته، وذهب الاتحاد أدراج الرياح إلى يومنا. لا يحسنون الخلاف. لا يستمتعون به. لا يكبرون. ولا ينضجون. ويكلفون الثورة السودانية ما ستحتمله إن شاء الله.

*الشارع الآن لا يلتف كالسابق حول المكون المدني في الحكومة الانتقالية، ما مدى تأثير ذلك على عملية الانتقال، وبالتتابع هل تعتقد أن التجاذبات بين المكون المدني والمكون العسكري انتهت؟

– عدم الالتفاف هذا عقاب مناسب لقيادة استغنت عنه بنضال الغرف وعقود الاتفاق دون السهر معه في لجان مقاومته ونقاباته الخاملة على تعزيز الثورة. أتمنى أن يكون بين شباب الثورة من رتب نفسه لاستنقاذها من الفريق الذي استغنى عنه. كان رأيي دائماً أن ليس بالثورة غير مكون واحد هو المدني. أما المكون العسكري فهو ضيف ثقيل، ووصفه بالمكون مجرد دماثة، إنه غول الثورة.

*كيف ترى مسؤولية القوى السياسية في التخبط الذي حدث في مسار الثورة؟

– أنا يا ابني شيوعي معتق. ورأينا قديم في ثورية مثل (قحت). نسميهم البرجوازية الصغيرة، وسبرنا غور ثوريتها منذ ثورة أكتوبر ولم نسعد بها. وصادمنا هذه الفئة بعد انقلاب ١٩٦٩. هم حلفاء ولكنهم، لو لم تتداركهم القوى الشعبية الحية من عمال وكادحين، أها دي سواتهم: يا دهينة لا تموعي.

*هل مسار الثورة الآن محصن من قيام انقلاب، وهل ثمة تشابه بين ما يحصل الآن وما حصل في فترات انتقالية سابقة ؟

تنجح الانقلابات في الديمقراطية المدنية – صعب التكهن به في الهرج العسكري وتكاثره الذي يحدق بنا. علاوة على أننا نعايش انقلاباً عسكرياً من أول وهلة الثورة. وهو ذو طبيعة مختلفة عن انقلابات سبقت تناصر فيه جيش الثكنات وجيش الخلاء. وما يزال هذا الانقلاب “يجند” فرقاً من جيوش الخلاء ليرجح كفته بوجه الثورة. سبق في ١٩٨٥ أن وقع انقلاب داخل الثورة بقيادة سوار الذهب. والفكرة من وراء الانقلابين هي لجم الثورة ألا تطال منزلة ومصالح العسكريين في بلد صار للجيش أمة بدلاً من العكس كما قال أحدهم.

*حركات الكفاح المسلح انضم جزء منها للحكومة والكابينة السياسية الحاكمة، كيف تقيّم خطابها السياسي، وهل اتفاقية “جوبا” قادرة على وضع حد للاحتراب؟

– لا جديد في ذلك. كان هذا ديدن الحركات المسلحة الجنوبية. فالأنيانيا ترفعت عن ثورة أكتوبر لتوقع اتفاق سلام مع نميري. واعتزلت الحركة الشعبية ثورة أبريل ١٩٨٥ لتوقع اتفاق نيفاشا مع نظام البشير “العسكريين”. أما مسلحو دارفور فشهدت الدوحة اتفاقات سلامهم تترى كل ما اختلف مسلح مع مسلح زميل. المسلحون يبدأ الواحد منهم مناضلاً مدنياً يقول إنه اضطر لحمل السلاح ثم ينتهي، بتطاول المدة والتطهر من الجماهير التي خرج لأجلها، إلى عسكري خاضع لهرمية عسكرية. انظر إلى أين قادت الحركة الشعبية (قرنق) المدني المسلح في نهاية الأمر. انتهوا إلى طغم مستنفرة ترتكب الجنوسايد في رابعة جوبا. أما اتفاقية جوبا فهي بوابة احتراب كبرى. فالاضطراب في الشرق أصله في اتفاقية جوبا. هي اتفاقية في منتهى عدم المسؤولية الوطنية.

*في السياق، كيف تقيّم توقيع إعلان المبادئ الأخير بين الحكومة الانتقالية والحركة الشعبية “جناح الحلو”؟

– لا أخفي أنني مخذول من هذه الحركة التي استبشرت بكلمتها الأولى بعد الثورة، وهي وقف إطلاق النار وترك الحرية والتغيير لإدارة الشأن. لم يزد اتفاق الحلو والبرهان عما جاء في اتفاق جوبا، علاوة على فقرتين لصالح الوسيط من الأمم المتحدة لا مكان لهما في اتفاق مبادئ وطنية. زي الحركة حَارجَانا مع الفلول. سموا الاتفاق علمانية البندقية. ولا يخلو من صح.

*ما مدى التحولات التي أحدثتها الثورة خلال الفترة الماضية على المستوى الاجتماعي في السودان؟

– أقرأ لبعضهم في الثورة المضادة عناوين صارخة مثل: “مظاهرات ضد قحت” مثلاً. ويكون ردي بأن مثل هذا الاحتجاج ما قامت الثورة من أجله. خيمت على الناس 3 عقود مَحرْجين على الناس كلمة بغم. فكت الثورة عقدة لساننا لنلهج بحب الوطن ولنتناقش في الهواء الطلق عما ينبغي عمله لخروج لبلد من محنتها. الوضع صعب ولكنه الطريق الوعر لهذا الخروج. وهذا خلاف نظام الإنقاذ الذي الفكر فيه لأهل الحل والعقد لا للشعب. والرأي فيه قتيل في سبتمبر 2013.

*رفع ثوار ديسمبر شعار مدنية الدولة، لكن سرعان ما عادت القبيلة وخطابها المتصل بالسلطة وصراعاتها على الأرض والموارد إلى سطح الأحداث، من الذي يقف خلفها وماذا يريد؟

– هذه مضار جانبية لدواء الثورة. فالإدارة الأهلية صناعة المركز من زمن الإنجليز، مهما قلنا عن “قبائليتها أو محليتها”. وكثير من تحركات الجماعات في الريف انتفاضة ضد أوضاع في الريف فرضتها الإنقاذ مثل الاستهتار بأعراف الحواكير، بل بعضها انعتاق من أعراف مهينة للإدارة الأهلية نفسها. شهدنا بعد ثورة أكتوبر حركات تطالب بحل الإدارة الأهلية في مناطقهم، بل كانت أعنف وقائع الريف هو ما حدث بين الرزيقات والمعاليا حول حقوق الدار. بعض الجماعات في الريف تثور على طريقتها الخاصة لرفع الظلم عنها. المشكلة أن الصفوي في قحت وغير قحت لا يعرف من الريف إلا الإدارة الأهلية، تعفيه وعثاء خوضه المستقل في سياسة أغلبية شعبه ومعاشهم. وقضايا الريف هذه مدنية خالصة وحلها في الديمقراطية والتنمية. فالثورة عندنا في اليسار هي ديمقرطة الريف زي تحريره من العلاقات الأبوية التاريخية.

*ما هي المآلات والسيناريوهات المتوقعة للثورة في السودان؟

– نحن في الطور الثالث (٦٤ و٨٥) من ثورة التغيير للديمقراطية والمدنية في السودان. حققنا في مساراتها مواطنة المرأة ومواطنة الشباب ومواطنة الآخر المختلف ثقافياً. وصرنا قريبين من تحقيق مدنية الدولة، باستبعاد للعسكرية وتحييد الدين فيها. الطريق وعر ولكن للثورة حفاظ مر.

الحداثة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..