أخبار السودان

عسكر السودان.. جدل العقيدة وصراع الأوامر

رغم أن إنشاء الجيش السوداني كان في فترة الاستعمار البريطاني، إلا أن الحكومات الوطنية السودانية حسب مراقبين، زجت بالمؤسسة العسكرية في الصراعات السياسية، لذلك وطوال تاريخ الحروب والنزاعات في السودان كانت القوات النظامية وشبه النظامية جزءاً لا يتجزأ من هذا الصراع الذي تحول إلى صراع سياسي تمثل في الانقلابات العسكرية، والاعتداءات المتكررة من العسكر على الحقوق المدنية، وهو ما جعل ثورة ديمسبر التي أطاحت بالنظام السابق تطالب إعادة هيكلة المنظومة العسكرية والأمنية.

تفجرت خلال الأيام الماضية من جديدة قضية الاعتداءات على المواطنين وحقوقهم في الاحتجاج السلمي، وإطلاق النار عليهم من قبل عناصر القوات النظامية، وذلك بعد قمع مجموعة من عناصر القوات المسلحة لتجمع سلمي لإحياء الذكرى الثانية لجريمة فض اعتصام القيادة العامة في العاصمة والولايات، وإطلاق هذه القوة النار على المتظاهرين عقب إفطار أقاموه أمام القيادة العامة للجيش، وسقط على إثر ذلك قتيلان هما عثمان أحمد بدر الدين، ومدثر مختار الشفيع، بجانب عدد من الجرحى، الأمر الذي أدى إلى تدخل غاضب من مجلس الوزراء الذي طالب بتقديم المتورطين للعدالة وتسليهم للنيابة العامة.

وأكد المجلس في جلسة طارئة عقدها بعد الاعتداء الذي نفذه عناصر الجيش على المتجمهرين أمام قيادته، أن الدم السوداني واحد، وأن إجراءات العدالة يجب أن تكون على قدم المساواة في جميع المناطق في البلاد، بحيث يكون تحديد المسؤوليات الجنائية وفق اشتراطات القانون المنصف والعادل، كما شدد على أن الحق في التظاهر والاحتجاج مكفول بالقانون، وأن محيط القيادة العامة ملك للشعب السوداني وبناته وأبنائه، وليس هناك ما يمنع من الحركة فيه بحرية إلا وفق ما ينظمه القانون.

وكان وزير شؤون مجلس الوزراء خالد عمر يوسف، قد قال إنهم قابلوا القائد العام للقوات المسلحة عبد الفتاح البرهان، عقب انتهاء تحقيقات أحداث ٢٩ رمضان، وشهد اللقاء تسليم قيادة القوات المسلحة نتائج التحقيقات للنائب العام، والتي شملت ٧ متهمين بإطلاق الرصاص من بين ٩٢ مشتبهاً بهم كلهم من منسوبي القوات المسلحة السودانية.

وأبان أنه بعد أن تم رفع الحصانة عن المتهمين وتحويلهم إلى النائب العام الذي سيقوم بالتحري معهم ومع المشتبه بهم، تمهيداً لتقديم من يثبت ارتكابه لهذا الجرم لمحاكمة نزيهة وشفافة. وأضاف: “لم تبلغ ثورتنا بعد مبلغ لجم عقال القتل والعنف، ولكنا عازمون ألا تستثني العدالة أحداً، أو يمر جرم دون كشف الحقائق كاملة دون مواربة، تحقيقاً لشعارات ثورتنا المجيدة”.

بدورها، قالت النيابة العامة، إنه تم تقييد دعاوى جنائية تحت أحكام المادة (130) القتل العمد، والمادة (186) الجرائم ضد الإنسانية في مواجهة المتهمين بتاريخ 11/5/2021 والأمر بتشريح جثامين الشهداء لبيان الإصابات ومواقعها وأنواعها وأسباب الوفاة المباشرة، مبينة أنه بتوجيهات النائب العام أشرفت النيابة العامة على إجراءات التشريح واستدعاء الإدارة العامة للإدلة الجنائية (دائرة المختبرات الجنائية)، (ودائرة مسرح الحادث) لاتخاذ ما يلزم من إجراءات فنية داخل مشرحة بشائر. موضحة أنها أشرفت النيابة العامة على الإجراءات الفنية لزيارة مسرح الحادث وتم رفع الأدلة المادية والآثار وتحريزها وتصوير مسرح الحادث.

وتسلمت النيابة التقارير النهائية للطب الشرعي التي أثبتت أن وفاة الشهيد عثمان أحمد بدر الدين (تهتك الرئة اليسرى والقلب والنزيف الحاد الشديد بسبب الإصابة بطلق ناري)، والشهيد مدثر مختار الشفيع (تهتك الكبد والقلب والنزيف الحاد الشديد بسبب الإصابة بطلق ناري). وبعدها أعلنت النيابة تسلم المتهمين توطئة للتحقيق معهم وتقديهم للعدالة. في وقت نشر التلفزيون القومي أسماء 7 من الجنود باعتبارهم المتهمين بإطلاق النار على التجمع السلمي.

وجاءت الحادثة الأخيرة بسبب الحادثة الأولى قبل عامين وفي ذات المكان أمام القيادة، عندما اقتحمت قوات عسكرية مشتركة اعتصام المواطنين السلمي، وأطلقت النار على المعتصمين، ومارست عمليات قتل وتنكيل واغتصاب بحقهم، وسقط أكثر من 250 قتيلاً ومئات الجرحى وفقد المئات الآخرون، فيما تم العثور على آخرين وقد تم تقييدهم وإلقاؤهم في نهر النيل، وحدث ذلك على مرأى ومسمع قيادة الجيش السوداني في عهد المجلس العسكري الذي كان يسيطر على السلطة آنذاك. والذي يواجه قادته وعلى رأسهم رئيس المجلس السيادي حالياً عبد الفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان حميدتي قائد مليشيات الدعم السريع (المتهم الأول) المسؤولية عن تلك الجريمة. وقد تم تشكيل لجنة وطنية للتحقيق لكنها لم تفرغ من عملها بعد.

وقد أثارت الحادثة الأخيرة بإطلاق الجيش النار على التجمع السلمي أمام القيادة غضب الشارع الثوري في البلاد، وهددت لجات المقاومة بإشعال البلاد وإغلاقها في حال لم يتم تقديم المتورطين للعدالة، وأعادت حادثة 29 رمضان أيضاً الجدال حول ضرورة هيكلة القوات المسلحة وإصلاحها باعتبارها ما زالت تخضع لقوانين وطريقة عمل النظام السابق الذي سيطر عليها لـ30 عاماً، كما تمت المطالبة بإعادة النظر في العقيدة العسكرية للجيش وتكوينه وتعامله مع المدنيين.

ويرى محللون وخبراء عسكريون، أن المشكلة تكمن في عقيدة وطبيعة تكوين ومهام القوات العسكرية، وهي شاركت وتدربت مع قوات أخرى في مختلف دول العالم، لكن الاستغلال السياسي والقبلي ربما لهذه القوات هو ما يجعلها تنفذ مهاماً قتالية وجرائم ضد أبناء وطنها، ما يجعل تغيير هذه الأمر يتعلق في المقام الأول بتغيير العقائد والأفكار والمفاهيم التي تحكم عملها وتغيير القيادة التي تتولى توجيهها.

وأشار محللون إلى أن العقيدة العسكرية، تعرف بأنها مُجمل المفاهيم والمبادئ والسياسات والتكتيكات والتقنيات والتدريبات والأساليب المُستخدمة أو المُتّبعة، لضمان كفاءة تنظيم وتدريب وتسليح وإعداد وتوظيف المؤسسة العسكرية لوحداتها التكتيكية والخدمية، وهذا الأمر في ما يخص السودان بحاجة إلى مراجعة، مؤكدين أن الحادثة الأخيرة أمام القيادة يجب أن يجري التحقيق فيها عبر تتبع التسلسل القيادي، بحيث يُحاسب مصدروا الأوامر قبل منفذيها، حتى لا يُصبح الجنود المقدمون للعدالة مجرد أكباش فداء، بينما المسؤولون الحقيقيون من الضباط والقادة العسكريون في مأمن من العقاب.

مداميك

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..