مقالات وآراء سياسية

السودان: الراهن السياسي ومآلات المستقبل

 د. مهدي تاج الدين عبدالنور

<[email protected]>

يزداد المشهد السياسي السوداني تعقيداً يوماً بعد اليوم وكأن قدر هذا الشعب أن يتجرع دوماً كؤوس الحرمان وإلى الأبد، حرمان من الفرص وحرمان من الحرية وحرمان من العيش الكريم وأخيراً الحرمان من الحياة نفسها إن هو أراد الحياة بالشكل اللائق، شعب مقهور في لقمة، عيشه وشربة مائه وغفوة نومه وآماله وطموحاته، ويتواصل السقوط بتبدد الآمال التي أضحت كالسراب مع تهافت من ظننا فيهم الخير وحسبناهم عونا وسنداً للعباد والبلاد، ومع إزدياد حدة التأزم هذه بدأت معركة جديدة ولكنها (بالفر ) فقط، إذ انطفت ظروف (الكر ) تماما، وبدأ البعض محاولاً القفز من المركب الغارق.
مسلسل الاستقالات التي اكتملت حلقاتها سوف تُعرض على الشعب السوداني بالتقسيط في الموسم القادم، في بلد لا تعرف الوفرة في أي شيئ، حتى الاستقالات ستجيئنا( بالقطاعي) وبات واضحا بأن المستقيلون سوف يرددون عبارات مثل تهميشهم في عمليات صنع القرار السياسي في البلد، ولا يشيرون بأية حال من الأحوال إلى فشلهم في إدارة التغيير  الذي تم والعزوف بالثورة بعيدةً عن مسارها والانشغال ببرامج هي ليست من أولويات الشعب السوداني فضلاً عن أن جلها ليست من مهام الفترة الانتقالية.

أثبتت التجربة أن قوى الحرية والتغيير  بمكوناتها المختلفة ليست على قلب رجل واحد ولا شيئ يجمع بينها سوى الاتفاق على شيطنة النظام السابق أولاً، والجيش ثانياً، وهي تعلم بأن جموع الشعب السوداني قد خرجت في مدن السودان كافة وقالت كلمتها في نظام الإنقاذ بعد تربعها على عرش السلطة لنحو ٣٠ عاماً، فالشعب ليس بحاجة لدروس خاصة تبين له سوءات الإنقاذ.
أما الجيش والدعم السريع ؛ فانحازت إلى الشعب تحت ضغط الشارع والتظاهر الذي عم كل مدن السودان، وتعلم المؤسسة العسكرية- مثلما يعلم جموع الشعب – أن الجيش ليس من اختصاصه ممارسة السلطة السياسية والحكم، لكن متى يكون ذلك وكيف؟
أعلنت المؤسسة العسكرية أنها استولت على السلطة وأنها وضعت رأس النظام السابق في مكان آمن وحلت الحكومة وأعلنت حالة الطوارئ وكلفت قادة الفرق بالولايات المختلفة لتسلم زمام الأمور بولاياتهم وتسيير دفة الحكم وسمَّت الفترة الإنتقالية بعامين. لم يطمئن الشعب لتلك القرارات وواصل الضغط على المجلس العسكرى وعلى مركزية قوى الحرية والتغيير، وأحسب أن المؤسسة العسكرية كان يمكن لها أن تسلم السلطة للمدنيين، ولكن من هم المدنيون؟ كانت المؤسسة العسكرية على علم ودراية ببواطن الأمور وتعلم أن الثورة قد تم التدبير لسرقتها ليلا وأن هنالك الكثير من الأمور التي تجري في الخفاء وبعيدة عن أعين الشعب، فعرفت حجم أولئك ومقدار ما عندهم من علم وحنكة وكفاءة، كما عرفت ما هم عليه من نوايا وآمال من خلال جس النبض الذي كان يمارسه الشق العسكري أثناء التفاوض، فأدرك أنهم كغثاء السيل، يحسبهم الناظر إليهم جميعا وقلوبهم شتى فأحكم قبضته عليهم وأفقدهم أي سند جماهيري كانوا يتدثرون به، فأصبح اللعب على المكشوف ولم يعد هناك ما يجبر المكون العسكري على الخضوع أو المصارحة معهم إلا بالقدر الذي يتراءى للشخص العادي الناظر من بعيد.
علمت المؤسسة العسكرية أن قوى اليسار قد سرقت الثورة وتمترست هي الأخرى في خنادق السياسة خوفا من أن تجرفها رياح الكنس والانتقام وتصفية الخصوم، فضاعت الثورة بفعل المدنيين أنفسهم وتعطشهم للسلطة وكسر عظام الخصوم.

بدت بوادر الجفوة بين المكون المدني والعسكري  عندما حادت قوى الحرية والتغيير عن المصداقية وعن مصارحة جموع المعتصمين بالحقائق الموضوعية وهي تفاوض الشق العسكري، ففي مواقف كثيرة تلتقي فيها العسكر على طاولة التفاوض وتتفق معهم، ثم تعود لمخاطبة المعتصمين مدعية  بأنها تريدها مدنية كاملة الدسم، في الوقت الذي يعلم القاصي والداني مآلات الأمور وما هو متاح وممكن في ظل تلك الظروف التي أعقبت سقوط حكومة الإنقاذ.

دارت الأيام وجرت الكثير من المياه تحت الجسور، وتلبدت سماء السياسة بالغيوم وارتعد الشارع وهدر من جديد ،ولاحت عاصفة في الأفق، هذه العاصفة ستقلع  الحكومة الانتقالية إن ظلت على حالتها هذه لطالما فشلت في تحقيق أهداف الثورة وعجزت عن طرح أي شيئ يجعل المواطن يفرح بها ولا يتأسف على خروجه مطالبا بسقوط الإنقاذ،وقد شهد على فشل الحكومة  كثيرون ممن لا نستطيع بأي حال من الأحوال الطعن في شهادتهم لأنهم جزء منها وهُم على قمة هرم السلطة.
ولعل التخبط الواضح فيما يتصل بالتطبيع مع دولة الكيان الصهيوني الذي بدأه المكون المدني وزجره المكون العسكري، ثم أقدم عليه المكون العسكري وتبعه صمت مريب من الشق المدني ليتوج بموقف السودان غير المعهود في الأمم المتحدة يوم امتنعت السودان عن التصويت لصالح قرار يجرم إسرائيل ويعزز حماية الفلسطينيين، صحيح أن السياسة الخارجية لأي بلد فيها الثوابت والمتغيرات، وصحيح أيضاً أنها يجب أن تنبني على المصالح الحقيقية للدولة وشعبها، ولكن الصحيح أيضاً ووفقا للشرعية الدولية المتمثلة في القرارات الأممية الصادرة بشأن فلسطين ودولة الكيان الصهيوني وخاصة تلك الصادرة في العام ١٩٦٧م يجعل موقف السودان مخزيا لاعتبارات إنسانية صرفة ناهيك عن أي دواعي أخرى، وبالتالي يأتي التساؤل ما الذي تغير فيما يتعلق بمصالح السودان الخارجية مع دولة إسرائيل ؟
بالطبع هذا الموقف هو ما أراده إسرائيل وكذلك حلفاء إسرائيل، أما السودان فلا ناقةَ لها فيه ولا جمل.

ستكون الأيام المقبلة ملئى بالمفاجآت المدوية جراء التقارب المتوقع بين الشق العسكري وحركات التمرد الموقعة على اتفاق جوبا للسلام وتلك التي من المرجح أن تلحق بالركب، وقتها سيكون المخرج السير بالفترة الانتقالية نحو انتخابات مبكرة سيكون لحزب الأمة والشق العسكري و(حركات الكفاح المسلح)  الدور الأكبر في رسم ملامحها.
من المؤكد أن الأمور تسير نحو مزيد من التحالفات ومزيد من الاحتقان ومزيد من الاستقالات إلى الحد الذي لا يخشى فيه الناس شيئ سوى الفوضى وانفراط عقد الأمن ؛ فيقبلون على مضض بأي تغيير قادم لطالما يجنب الناس شر الصدام المفضي إلى القتل الأليم.

نسأل الله السلامة للسودان.

ولنا عودة إن شاء الله.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..