مقالات وآراء

شرعنة “الغِشِّ” في السياسة السودانيّة!!

علي يس

•       ربما كان مصدر حيرة للكثيرين ، خضوع الأمّة السودانيّة للغِشِّ المكشوف و المفضوح من قبل ساستها و حكوماتها  منذ الاستقلال و حتى اللحظة ، مع استثناءات نادرة لا تقوى على كسر القاعدة.
•       مبرر الحيرة أنّ الشعب السوداني ظلّ يثور على حكّامه (ثلاث ثورات ناجحة نسبياً ، و عشرات الثورات المقموعة) و بمبررات  كثيرة صائبة ، “كبت الحريات ، نهب الثروات و الفساد المالي و الإداري ، تخبط السياسات ، تجاوز حقوق الإنسان و غياب العدل و المحسوبيات .. إلخ ، و لكن لم يكن من بين مبررات أيٍّ من تلك  الثورات “ممارسة الغِشِّ” من قبل الساسة ، مع أن هذا السلوك الأخير هو الغالب في تعاطي الساسة مع الشعب!!..
•       و الأمر كذلك ، لابُدَّ  من بحث أسباب هذه “القابليّة للغش” في نسيج ثقافتنا نفسها ، و لعلّ الكثيرين عايشوا  أو سمعوا  بضروب من الغش المكشوف مارسها بعض الساسة على الشعب ، فلم يسفر انكشاف الغش لاحقاً عن غضب شعبي أو ثورة ، بل تحول الأمر، أحياناً، إلى مجرَّد “نكتة تداولها الناس بطرب و أصبحت موضوعاً للأُنس”، أعني بذلك النائب البرلماني الراحل “هاشم بامكار” الذي وعد ناخبيه في الشرق (ستينيات القرن الماضي) حال فوزه ، بالعمل على إنشاء جسر “كوبري” على البحر الأحمر حتى يتمكنوا من الحج على دوابهم إن شاؤوا !!.. وواقع الحال يؤكد أن الناخبين صدَّقوا وعده فكان فوزه بمقعد في البرلمان . و الحق إن الراحل بامكار ، رحمه الله و غفر له ، لم يكن اسنثناءً  و لم يكن وحيداً في مضمار الغش، بيد أنّ غشّه كان أقرب إلى السخرية من ناخبين تتقبل عقولهم كذبته المستحيلة، و كان ، إلى ذلك ، رجلاً وطنياً صادقاً و أصيلاً في مواقفه. و لكن ظلَّ كثير من المرشحين في الحكومات الديمقراطية الشحيحة  يستحلُّون غِشَّ قواعدهم بوعودٍ  قابلة للتصديق ، ينسونها تماماً بمجرد فوزهم.
•       و من وقائع الغش السياسي “الحكومي”  المشهورة ، ما فعلهُ رموز الحزبين الطائفيين ، ستينيات القرن الماضي، بتواطؤ و تحريض من الإخوان المسلمين أيَّامذاك بقيادة الترابي ، بشيطنة الحزب الشيوعي و طرد  نوَّابه من البرلمان ، إثر واقعة هرطقة من شخص مجهول  أيَّامذاك ، زعم أنه “شيوعي” ، فقامُوا من فورهم بتحميل الحزب الشيوعي مسؤولية حديثه المسيء إلى الإسلام  و نبي الإسلام صلوات الله و سلامه عليه ، تمهيداً  لطرد نوّاب الحزب من البرلمان ، في واقعة استغلالٍ انتهازي بشع للعاطفة الدينيّة لدى نوَّاب طائفيين متواضعي التعليم و الوعي ، و هو ما حدث ، فاستراحُوا من الصداع الذي كان يسببه نواب الحزب الشيوعي ، الذين كانُوا الأفضل تعليماً و الأكثر وعياً بعيوب الطائفيّة “و اللافت للبصر، أن الراحل هاشم بامكار – صاحب الكوبري – كان ممن أبدوا شجاعة داخل البرلمان و استنكروا طرد نواب الشيوعي بتلك الحجة الواهية” .
•       و لما كانت مبررات تجريم الحزب الشيوعي أوهى من خيط العنكبوت ، فقد قضت المحكمة الدستوريّة ببطلان الإجراء المتمثل في طرد نواب الحزب من البرلمان، فكانت الطامَّة أن رفضت الحكومة آنذاك  ، بمجلس سيادتها الذي كان يرأسه الراحل إسماعيل الأزهري ، و مجلس وزرائها برئاسة  الراحل الصادق المهدي ، حُكم المحكمة الدستورية واجب التنفيذ ،  موجِّهة صفعةً للقضاء النزيه المستقل ، ما أسفر عن استقالة رئيس القضاء يومها (الراحل بابكر عوض الله ) مبرراً استقالته بخطاب ضافٍ ، جاء في ختامه ((أقولها بكل صراحة وقوة أنني لم أشهد في كل حياتي القضائية إتجاهاً نحو تحطيم الجهاز القضائي والتحقير من شأنه والنيل من إستقلاله كما أرى اليوم((…
•       و لكن آثار الغش الذي استهدف البُسطاء تجاه الحزب الشيوعي ، و اعتبار الانتساب إليه “كُفراً بواحاً”، بقي ماثلاً حتى اليوم .
•       هل يمكن إرجاع موقفنا الشعبي تجاه الغش إلى تلك المقولة الشعبية الرائجة بين البسطاء : (كان ما غشّوك ما ربّوك)؟؟ في أغرب جمعٍ بين نقيضين (حسن التربية) و (الغش)!!.. و هل وقر في صدور ساستنا و حُكَّامنا ، جرّاءَ هذه التربية “المغشوشة” ، أنّ من واجبهم “تربية” الشعب من خلال “غِشِّه”؟؟؟.
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..