مؤتمر باريس .. ماله وما عليه (2)

(أولوية الحل .. من الداخل أم الخارج؟)
عبدالمنعم عثمان
انتهينا في مقالنا الأول إلى سؤالين أساسيين:
أولًا: هل هناك ما يمنع السلطة الانتقالية من الدمج بين ترتيب البيت الداخلي ومن ثم الاتجاه للخارج، أو حتى العمل على الاتجاهين في نفس الوقت؟
فوجدنا الإجابات ساطعات في ما مضى من تصرفات السلطة الانتقالية، بل وحتى في الأمد القصير بين المقالين ما يؤكد الإجابة، بأن هناك الكثير من الأسباب المبدئية والعملية التى تمنع ذلك منعًا باتًا!
ففي ما مضى، وخلال سنتين من عمر الثورة والسلطة، لم يكتمل تحقيق أي من شعارات وأهداف الثورة: الحرية والسلام والعدالة.. فالحرية لا زالت توضع أمامها المتاريس في أدنى متطلباتها، ألا وهو حق التعبير، الذي يلاحق بالرصاص الحي خصوصًا إذا كان التعبير صادر عن جهة لها علاقة بالثورة، وهل من علاقة بالثورة أكثر من أهل الشهداء؟!
وعن تحقيق السلام حدث ولا حرج: ما يحدث في دارفور تحت سمع وبصر، إن لم نقل، ومشاركة بعض مكونات السلطة وتمركز جل قوات حركات الكفاح المسلح بالخرطوم بالقرب من زعمائهم الذين استقر بهم المقام في القصر الجمهوري. وظهور العشرات من الحركات التي لم تشارك أو تشرك في مفاوضات جوبا، مطالبين بحقوقهم من الكعكة التي لم تتوفر بعد حسب أخر تصريحات الدكتور وزير المالية، وهو القائل عند قبوله المنصب إن أحد دوافعه الرئيسة توفير الأموال الموعود بها لتنمية دارفور خلال العشر سنوات القادمات بإذن الله… الخ… الخ!
أما قصة العدالة، فيكفى دليل على عدم توفرها أن الذين استشهدوا في سبيل أن يكون كل ما يحدث للماسكين بكراسي السلطة ممكنًا، لم تتوفر حتى الآن الأدلة الكافية لأنصافهم، بل ولا يتوفر الأمل الكافي لإنصاف من لحقوا بهم عشية مؤتمر باريس. وهذا فقط بالنسبة للعدالة القانونية أما العدالة الاجتماعية فإنها خنقت بدرجة عالية قبل المؤتمر، وسيقضى عليها تمامًا في حال تنفيذ طلبات الصندوق المشترطة للإيفاء بوعود تخفيف الديون والتصديق بديون جديدة!
ذلك باختصار شديد ما حدث في الماضي وعلى سبيل الأمثلة، فالحصر يكاد يستحيل.. ولكن ما حدث في فترة ما بين المقالين يجعل ما ذكرنا مجرد لعب عيال، كما يقول أهلنا في مصر. فمثلًا ما تسرب عن أسباب استقالة الثائرة عائشة عن مجلس السيادة من ما تشيب لهوله الولدان. إلى جانب ما يتسرب عن اجتماع اثنين من كبار الوزراء مع مجموعة من صغار الضباط لتنفيذ طلب إحدى الدول الإقليمية النافذة في الشأن العربي مقروء مع ما تسرب أيضًا عن اجتماع رتب عالية ووسيطة بالرئيس متقدمين بمطالب مؤسسية ووظيفية. وقبل ذلك قرارات مجلس السيادة برئاسة نائب الرئيس، وعلى رأسها قبول استقالة النائب العام ورئيسة القضاء، بما جعل بعض المعلقين يربطون بينها والخلافات بين الرئيس ونائبه… الخ.
قد يقول قائل، إن هذه التسريبات ليس بالضرورة أن تؤخذ على محمل الحقيقة، وهو قول يعتبر صائبًا إذا كان هناك من شفافية السلطة ما يوضح الحقيقة بالتمام، خصوصًا وأن من يسربون معروفين أو من الممكن والمفترض الوصول إليهم، وبالتالي توضيح ما هو حقيقة وتطبيق القانون في حالة تأكيد عدم صحة التسريبات. ولكن كيف ننتظر شفافية وحقائق من سلطة لم تكشف لنا حتى اليوم أسباب إقالة وزير التربية والتعليم ومدير المناهج، ولماذا لا تزال أهم وزارة بدون وزير؟ وما هو موقف السلطة الحقيقي من التطبيع مع إسرائيل مع التناقض الواضح في موقفي رئيس السيادة والوزراء؟ ومتى ستكتمل مؤسسات الدولة المهمة جدًا لتحقيق أهداف الثورة من مثل المجلس التشريعي ومجلس القضاء العالي؟ وما هو الموقف من تسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية… الخ… الخ مما يصعب حصره من مواقف تدل على الانسجام الكامل في حقيقة الأمر بين المكونين المدني والعسكري للسلطة الانتقالية، وهو قول ينطبق تمامًا مع تصريحات الدكتور رئيس الوزراء، الذي لايني يبشرنا بذلك الانسجام بل ويجعله نموذجًا يحتذيه الآخرون!
أما في ما له صلة بقضية المقال من سياسات اقتصادية ومالية تسعى السلطة الانتقالية لتحقيقها، فقد وضح بما لا يدع مجالًا لشك أنه لا علاقة لها باللجنة الاقتصادية للحاضنة. وعليه فإننا نجزم بأن السلطة الانتقالية بتكويناتها الحالية ذات المصالح المترابطة في الداخل ومع الخارج لا يتوقع أن تلتزم بغير سياساتها الجارية المنسجمة تمامًا مع متطلبات القوى الدولية والإقليمية ، وبالتالي فأنه لا سبيل لأن تسعى لدمج العمل الداخلي بالسعي للاستفادة من العون الخارجي كعامل مساعد فحسب. إلى ما بعد تنفيذ ما تبقى من مطلوبات من الصندوق والبنك الدوليين، وبالتالي تحقيق الآمال في تخفيض الديون والحصول على المنح والقروض والاستثمارات التي ستخرج الاقتصاد من وهدته.
خطر ببالي سؤال لمجلس الوزراء وكل من يقرون السياسة الاقتصادية المتبعة: هل تظنون أن السلطة ستبقى إلى ما بعد تنفيذ ما تبقي من مطلوبات الصندوق والبنك الدوليين، وبالتالي تحقيق الآمال في تخفيض الديون والحصول على المنح والقروض والاستثمارات التي ستخرج الاقتصاد من وهدته، أم أن شيء ما قد يحدث من قبل الجماهير المسحوقة أو من قبل الجماعات الداخلية والخارجية التي تساعد في الخنق لغرض في نفسها لم يعد خافيًا؟!
ثانيًا: هل من الممكن أن تؤدي السياسات المتبعة إلى تحقيق أهداف ثورة ديسمبر المتفردة في تحقيق الاستقلال الاقتصادي والعدالة الاجتماعية التي طال توق جماهير الشعب لها طوال خمس وستين سنة من الاستقلال السياسي المنقوص؟!
ذكرت عديدًا من المرات أن تفرد ثورة ديسمبر يأتي من وعي جماهيرها بضرورة التغيير الجذري لمناهج الحكم وسياساته المتبعة منذ الاستقلال عن طريق الحكومات العسكرية والمسماة بالديموقراطية. وبالطبع إن كان تحقيق الأهداف المذكورة يتطلب في الأساس نظرة مختلفة للتنمية الاقتصادية/ الاجتماعية، يصبح لا بد من وضع قضية الاستقلال الاقتصادي على رأس قائمة ما تهدف إليه تلك التنمية. وبالتالي، فإن الصراع هذه المرة يأخذ طابعه الاجتماعي الطبقي بدون غطاء القشرة السياسية التي ظلت تحجب طبيعته خلال الثورات السابقة. ولعل في هذا يكون التفسير لوقوف ثوار ديسمبر خلف متاريسهم حتى اليوم، خلافًا لم حدث إبَّان الثورات السابقة، وهو ما يعني أيضا أن توازن القوى الداخلي، على الأقل، لم يعد كما هو في سابق الأزمان والثورات السودانية. وقد لا يسمح التوازن الحالي لإنجاز كل ما يرنو إليه الثوار ولكن باستمرار الثورة وازدياد الوعي والحفاظ على الأسس الديموقراطية تكفل حرية التنظيم والتعبير، فالنصر قادم وإن طال الزمن!
ومن نفس هذا المنطلق، فإن وقوفنا ضد سياسات الصندوق، الممثل لمصالح الغرب الاقتصادية التي لم تعد تخفى على الاقتصاديين حتى من داخل المعسكر الرأسمالي، وبالتالي فمن غير الممكن أن تخفى على اقتصادي البلدان الفقيرة، له ما يبرره. ولعل في نموذج جيمس ريكاردز، مؤلف كتاب (الطريق إلى الدمار) ومحمد يونس البنجلادشي الجنسية، الذي اكتشف وسيلة تمويل للفقراء بدون ضمانات، كان من شأنها إخراج 85% من السكان من وهدة الفقر، ما يدل على وضوح الدور الذي تلعبه الرأسمالية من خلال سياساتها المفروضة على العالم بقوة الدولار غير الحقيقية، وما يمكن ان يلعبه الوعي الاقتصادي لصالح البلدان الفقيرة وجماهيرها. وفي حقيقة الأمر فإن كشف ما تعنيه وتهدف إليه سياسات الصندوق لم يعد أمرًا نظريًا، وإنما واقع تؤيده النتائج في السودان على سنوات الحكم الانقاذي الذي تابع سياسات الصندوق كوقع الحافر على الحافر، وكذلك ما يحدث في العراق كنموذج لبلد وقع تحت سيطرة الاستعمار الأمريكي احتلالًا، ثم اقتصادًا بالدرجة التي جعلت رئيس الولايات المتحدة السابق، ترامب يطالب بالتريليونات الدولارية كحق لأمريكا مقابل الحماية… الخ.
ومع ذلك فنحن لسنا من أنصار قطع الصلات مع الغرب أو المؤسسات التمويلية التابعة له ولسياساته. كل ما نسعى إليه هو جعل التعاون معه يصب في صالح الطرفين دون تغول طرف. وهنا بالطبع يرفع الكرت الأحمر بضرورة الرضوخ لإملاءات الغرب وشروطه في البداية على الأقل لأنه لا تتوفر لدينا الموارد المالية لاستغلال مواردنا الطبيعية.. وقد أجبنا على هذا من وقائع البرامج التي تقدمت بها اللجنة الاقتصادية لقحت بمختلف اتجاهاتها السياسية بما في ذلك الذين لا يزالون يشكلون جزء من السلطة الانتقالية حتى اليوم وبرغم مفارقة سياسات السلطة لتلك البرامج “فراق الطريفي لجمله”!
ونضيف هنا أن لدينا من الإمكانيات والأوضاع ما يجعلنا، على الاقل في موقف الند، إن لم نكن في موقف صاحب اليد العليا! وبغير مبالغة، نورد العناصر التالية:
– الموقع الاستراتيجي للبلد وسط سبع أقطار، بما يجعله منطلقًا لتجارة الحدود مع كل تلك البلدان، إضافة إلى البعد العربي والأفريقي الذي يجعل التداخل مع سكانه سهلًا مع البلدان العربية والأفريقية. هذا إلى جانب إطلالته طويلة المدى على البحر الأحمر بما يجعله مخرجًا تجاريًا لعدد من البلدان المجاورة له ولا تطل على مخرج بحري على العالم.
– هذا الموقع الاستراتيجي على البحر الأحمر يتسبب الآن في صراع على موقع تقام فيه مشروعات عسكرية واقتصادية، يتساوى في ذلك عمالقة من مثل أمريكا وروسيا والصين وبلدان متوسطة الحجم والقوة مثل إيران والمملكة السعودية إلى جانب صغار يغرهم توفر المال لخلق نفوذ سياسي واقتصادي. وفى ظني أن وجود سلطة وطنية حقيقية، ليس وراءه نقاط ضعف يمكن استغلالها، يستطيع استغلال هذا الصراع وتوظيفه لمصلحة البلد.
– الموارد الثرة التي لا يختلف اثنان في وفرتها وتنوعها، ولا في حاجة العالم لها، خصوصًا تحت الظروف الاقتصادية التي يعقدها الوضع الصحي جراء الجوائح التى تأخذ برقاب بعضها، وهى ايضًا من العناصر التي تجعل يد السودان موازية، إن لم تعلو على أيدى الآخرين. وهنا أيضًا لا بد من ذكر بعض الموارد التي تختص بها بلادنا دون سائر بلاد الدنيا مثل الصمغ العربي وإمكانية الإنتاج العضوي للأغذية.
– الشمس المشرقة على الدوام والرياح وغيرها من موارد الطاقة المتجددة التي يمكن الاتفاق على استغلالها بواسطة عمالقة العمل الدولي في هذا المجال من أمثال ألمانيا وإسبانيا لكهربة البلاد من أقصاها إلى أقصاها وتوزيع الفائض إلى بلدان الجوار.
– استغلال أنظمة التمويل المسماة بالبوت، والتي تقوم على أساس البناء والتشغيل لمدة يتفق عليها مع الممول لاسترداد استثماراته قبل ردها للدولة. وهي من الأنظمة التي يمكن استغلالها على الأقل في الفترة الأولى التي لا تتوفر فيها إمكانيات الدولة لهذه الأعمال المكلفة.
وهكذا ترى أن الإمكانية لدمج الاتجاهين ممكنة فقط لو تم الاتفاق على جعل الداخل وموارده أساس للتنمية الاقتصادية والاجتماعية ذات الأهداف التي تخدم رؤية الثورة وإن هذا يظل مستحيلًا كاتجاه لسلطة تمثل مصالح طبقية وفردية لا تنسجم مع تلك الأهداف.
الميدان