السودانيون بين الوحش وهيكل والعقاد ..

د. الفاتح ابراهيم
هنالك فيديو متداول في وسائل التواصل الاجتماعي يتم فيه ترديد مزاعم غير صحيحة عن أم الرئيس المصري الاسبق أنور السادات وأصولها السودانية .. والمعلومات الواردة في الفيديو لا أصل لها وتعكس جهلا فاضحا بالتاريخ والجغرافيا ..
بطل القصة هذه المرة ليس اعلامي في قناة فضائية أو فنان او سياسي او أديب إنما محام يدعى نبيه الوحش وهو شخصية مثيرة للجدل حتى في المجتمع المصري .. وقد سبق ان
قضت محكمة جنح الأزبكية بمعاقبة المحامي نبيه الوحش، بالحبس 3 سنوات وكفالة 10 آلاف جنيه وغرامة 20 ألف جنيه في التهم المنسوبة إليه بالتحريض عبر وسائل الإعلام على اغتصاب الفتيات قسرًا والتحرش بهن، ونشر أخبار وبيانات من شأنها تكدير السلم العام وإلحاق الضرر بالمصلحة العامة ..
أشار هذا المحامي في حديثه في الفيديو أنه لو تم تطبيق قوانين اللياقة الاجتماعية في مصر لما صار أنور السادات رئيسا للجمهورية وامه ”ست البرين“ عبدة سودانية .. لا شك أن العبارة مسيئة وفيها جاهلية وفوق ذلك انها خطأ بكل الوجوه والصحيح أن اسمها أم سترين بِت خير الله ود عبد الحق ومن قبيلة الكواهلة العربية ..
والمدعو نبيه الوحش لم يكن الأول الذي تفوه بذلك وانما سبقه الكاتب محمد حسنين هيكل الذي ذكر في كتابه ”خريف الغضب“ محللا شخصية السادات بأنها متأثرة في توجهاتها بأمة السودانية ”ست البرين“ مكررا تحريف الاسم كما شاع في مصر .. وفي سياق لا يخلو من عنصرية أشار إلى أثر عنصر اللون والأصل السوداني في سلوك السادات فيما لامجال لتفاصيله هنا .. غير أن الاهم ان صدور مثل هذا من كاتب مثل هيكل عند الكثيرين لا بد أن يكون صحيحا ..
غير أن الفيلسوف والكاتب الانسان المصري الجنسية الدكتور فؤاد زكريا قد تصدى لأطروحات هيكل وفند مزاعمه في كتاب اسماه ”كم عمر الغضب“ .. والحق يقال أن فؤاد زكريا بمنطقه الصارم أنزل هيكل من عرشه وكشف مواطن الضعف وزيف السلطان والقوة التي منحها له النظام الناصري .. وقد ختم الكتاب بفصل أخير عنونه بـ ”هدم الهيكل“ وقد حدث أن هدم الهيكل وخلفه انقاضا وركاما على رأس صاحبه ..
ولعل الخيال أحيانا يشطح بهيكل في اطروحاته – على الرغم من أهمية بعض ما كتب – مثل ما أورد وروج له من أفكار في خريف الغضب .. وينسب الى نجيب محفوظ في هذا الصدد جملة ماكرة هي قوله : «لو كان هيكل روائيا لما كان لنا عيش في هذا البلد“ مما يوحي باتساع الخيال لدى هيكل عند رواية الوقائع والاحداث ..
ويحضرني مثال آخر للكاتب الكبير عباس محمود العقاد فقد اشتهر هو الآخر بسعة الإطلاع وصرامة المنطق الذي استخدمه في معاركة الادبية والفلسفية مما جعل خصومه يقفون عاجزين عن التصدي له وتنتهي محاولاتهم بالهزيمة والتجهيل .. لذلك لجأوا إلى حرب الاشاعة فنشروا أن العقاد وعائلته من السودان ولم يرد العقاد على ذلك بالرغم من عدم صحتها .. ويذكر الاستاذ الاديب طاهر الطناحي رئيس تحرير مجلة الهلال أنه عندما زاره في اسوان التي يقضي بها العقاد الشتاء لاحظ أن أفراد أسرته بيض يميلون إلى الشقرة فسأل العقاد إذن لماذا لم يرد على تلك المزاعم التي يروج لها الخصوم؟ فقد كان رد العقاد قويا مفحما حين قال له ولماذا أرد نافيا ؟ فإنهم بذلك زادوني فخرا على فخر بالانتماء إلى قوم في شهامة ونبل السودانيين ..
خلاصة الامر أن صفو العلاقات بين الشعبين قد تشوبها بعض التعكير الذي يصدر عن افراد لا يخلو منهم مجتمع وليس من العقلانية في شيء ان تؤخذ مثل هذه الأحداث لتعميمها وتجاهل الكثير من التواصل الطيب بين الشعوب حتى لو اضطربت أجواء ودهاليز التوجهات السياسية .. وقديما قال الشاعر الفحل محمد سعيد العباسي في ذكرياته عن مصر التي فارقها شابا وعاد إليها بعد تقدم العمر مسجلا ذلك في قصيدة طويلة يغني بعضا من ابياتها الفنان الطيب عبد الله:
أقصرتُ مذ عاد الزمانُ فأقْصَرا وغفرتُ لما جاءني مُستغفِرا
ما كنتُ أرضى يا زمانُ لَوَ انني لم ألقَ منكَ الضاحكَ المستبشرا
يا مرحباً قد حقّق اللهُ المنى فعلَيَّ إذ بُلّغْتُها أن أشكرا
يا حبّذا وادٍ نزلتُ، وحبذا إبداعُ من ذرأ الوجودَ ومن برا
مِصْرٌ، وما مصرٌ سوى الشمسِ التي بهرتْ بثاقب نورِها كلَّ الورى
ولقد سعيتُ لها فكنتُ كأنما أسعى لطيبةَ أو إلى أُمِّ القُرى
وبقيتُ مأخوذاً وقيّدَ ناظري هذا الجمالُ تَلفُّتاً وتَحيُّرا
فارقتُها والشَّعرُ في لون الدجى واليومَ عدتُ به صباحاً مُسْفِرا
سبعون قَصّرتِ الخُطا فتركنَني أمشي الهُوينى ظالعاً مُتَعثِّرا
من بعد أنْ كنتُ الذي يطأ الثرى زهواً ويستهوي الحسانَ تَبختُرا
فلقيتُ من أهلي جحاجحَ أكرموا نُزُلي وأولوني الجميلَ مُكرَّرا