
و أخيرا أطل علينا الدكتور عبد الله حمدوك،
كنا نتمنى هذه الطلة منذ زمن، لتحدثنا… لأنك سيدي:
(لن تبصرنا بمآقٍ غير مآقينا، لن تعرفنا….
ما لم نجذبك ….فتحدثنا و تكاشفنا)،
ولن نؤمن لك حتى نرى،
(الغربال المثقوب على كتفيك….و حزنك في عينيك) … أو كما قال شاعرنا (الطريد) محمد مفتاح الفيتوري.
أطل علينا دكتور حمدوك و بدا مرهقاً، مجهداً و مهموماً، و حزيناً، وهذا ما تمنيناه.
ظهر و كأنه كان يقف في صف البنزين، أو في صف الرغيف، أو كأنه لم ينم بسبب إنقطاع الكهرباء عن منزله، أو كأنه عاد للبيت من العمل بعد طول إنتظار للمواصلات … لولا البدلة الكاملة التي تفرضها عليه البروتوكولات..
أقول (كأن)، لأن ذلك غير مطلوب..
و هذا ما يفرحنا، أن نشعر بأنه يعاني كما نعاني، و أنه حزينٌ مثلنا، و أنه قد أصابه (قرح) كالذي أصابنا، أو على الأقل أنه .. ليس سعيدٌ كما كنا نظن…
وهو في حديثه لم يقل كلما يريد أن يقول، لأن من الواضح أن (في فمه ماء) يمنعه من البوح بكل شيئ، أشار لذلك عندما دافع عمن يرمونه بالضعف بأن هنالك توازنات دقيقة تفرض عليه أن يكون أقرب للضعف أحياناً، حتى لا يصبح (القندول ال فنقل الريكة).
توازنات دقيقة و حرجة: برهانية، حميدتية، عَقّارية، منّاوية، قحتاوية، غرباوية، شرقاوية… إلى آخر المصفوفة، و قد تكون توازنات (أنوية)، ليست بسبب مصلحة الوطن.. قال لكم (أفهموها بأأ).
لقد كان من المفيد له ولنا أن (يفضفض)، و في الفضفضة رسالة لأصحاب التوازنات الأنوية بأني في قادم الأيام سأصرح، و حأنزل ولو (معرّج)، فارعووا و انتبهوا يا هؤلاء…
أهم ما قاله حمدوك أنه لم يتعرض لضغوط من أي جهة لتطبيق سياسته الإقتصادية القاسية، و لكنه لا يملك خياراً آخر، و هذا هو الواقع، و هو على حق، كيف؟
لو كان العم حسب الله يريد أن يزرع أرضه و لكنه لا يملك المال اللازم للحرث و السُّقيا و البذور، فسيفكر بالذهاب للعمدة عبد القادر ليعطيه قرضاً لمقابلة إحتياجاته، و سيرحب العمدة بذلك و سيملي عليه شروطه، مثلاً أن يبيع له المحصول بأقل من سعر السوق، و سيقبل العم حسب الله بذلك مضطراً، و قد يبدو العمدة كإنسان شرير، و لكن يجب الإنتباه: هو لم يذهب للعم حسب الله في مزرعته و لا في منزله ليعرض عليه خدماته، العم حسب الله هو من أتى إليه، و هو من طلب القرض.
و بالطبع العم حسب الله معذور، والعمدة عبد القادر حر في فلوسه، و لم (يضربه على إيده) ليأخذها، هي متاحة بهذه الشروط، خذها يا عمي و أزرع أرضك… أو أترك الزراعة وشوف ليك شغلانة ثانية…
ما يفعله العمدة عبد القادر مع العم حسب الله هو ما يفعله بالضبط البنك الزراعي مع مزارعي القضارف، هو ما يفعله البنك الدولي مع الحاج عبد الله حمدوك.
: عايز قرض عشان تزرع أرضك؟ أوكي، هادي الفلوس و هادي الشروط، عجبك عجبك، ما عجبك… الله يسهل علينا و عليك، أرضك عندك و فلوسي عندي، و يا دار ما دخلك شر.
الفرق بين البنك الدولي و البنك الزراعي أن الأول يتدخل في خصوصياتك و يطلب منك أن تضغط على مصروفات عيالك، أما الثاني فعنده بعض من شهامة فلا يتطفل على خصوصيات و لكنه لن يرحمك، سيسجنك إذا لم تسدد…
يقول لك البنك الدولي خد الفلوس دي واشتري سماد، و ليس مسموحاً لك أن تفرّح عيالك وتشتري لهم منها بطيخة، فقط سماد… و خذ هذه و اشتري بها بذور، و لكن حذار أن تعطي منها (المدام) حق الحنّانة، بذور فقط، يمكن أن تفعل ذلك بعد أن تحصد و تسدد ما عليك… و لكن ليس بفلوسي، يا روح أمك… منتهى الحكمة و العدالة.
و في هذا إجابة للذين مازالو يفكرون بعقلية (لن يحكمنا البنك الدولي)، و يدعون للإعتماد على الذات، الذات المفلسة حتى النخاع، التي لا تملك حتى حق البذور، ناهيك عن حق الحرث و الماء و السماد و الحصاد، كيف ستزرع أرضها دون أن تستعين بالعمدة عبد القادر رغم جشعه.
خروج و عودة:
أتعبني جدي الذي كان يتابع معي خطاب دكتور حمدوك:
يا العشا أب لبن، يعني شنو الحصار الذي يكبلنا؟ و شنو يعني الخطة الإسعافية التي تقود للإنعتاق من الوضع الراهن، وما معنى سوف نضع معالجات هيكلية لننطلق إلى آفاق أرحب و نعدل تشوهات ميزان المدفوعات لنبلغ المدى المقترح من الرفاه لأن هنالك ضوء في آخر النفق…
خروج نهائي:
إكتشفت أن جدي معه حق، لماذا لا يخاطبنا المسئولون بلغتنا الدارجة التي يفهمها الجميع، هل نحن في حصة لغة عربية أم جمعية أدبية؟ بل لماذا يقوم بعضهم بحشر كلمات إنجليزية و هم يخاطبون النازحين في المعسكرات، و لماذا يقوم مقدمو برامج التلفزيون وضيوفهم بذلك؟ عنطزة؟ فنطزة؟ فهلوة؟ لا… غباء وجهل، أكرر غباء وجهل….
ألا يدري هؤلاء المسئولين أناا نسميهم (المسعولين)؟! و لّا يعني ما (ساعلين فينا)؟
شكراً حمدوك..
[email protected]