هدف ما قبل “نقطة قرار HIPC”.. فهل يحصد السودان اليوم النقاط؟!
إلغاء "الدولار الجمركي" ...

عبد الرحيم خلف الله محمد علي
مستشار قانوني،،،
[email protected]
أعلنت وزارة المالية والتخطيط الإقتصادي يوم الثلاثاء الماضي ٢٢ يونيو ٢٠٢١م ، عن إلغاء العمل بما يسمى “الدولار الجمركي” و ذلك إستكمالاً لقرار توحيد سعر الصرف . و ” الدولار الجمركي” هو سعر صرف لأغراض الجمارك ، و آخر سعر له قبل الإلغاء ٢٨ جنيها سودانيا للدولار ، و كان يستخدم لتقييم الواردات من أجل حساب رسوم الإستيراد، و قد أثار إلغاؤه الكثير من النقاش حول الآثار السالبة المترتبة على الإلغاء و المتمثّلة في إرتفاع أسعار السلع التي ظلت فئات / نسب جماركها كما هي دون تخفيض ، و كذلك التي تم تخفيض نسب جماركها و لكن ليس بالقدر الذي يجعل جماركها قبل الإلغاء هي نفس جماركها بعد الإلغاء ، و كذلك من الآثار السالبة كما يرى البعض إنخفاض إيرادات الجمارك . و في هذا المقال سأتناول بالسرد ، إعتمادا على البيانات و التصريحات الصحفية الصادرة عن صندوق النقد الدولي و البنك الدولي ، السياق و الخلفيات التي صدر قرار الإلغاء في إطارها و المتمثّلة في الوفاء بمتطلبات مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون Enhanced Heavily Indebted Poor Countries (HIPC)
بدءا أورد نبذة عن مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون HIPC ، ففي عام ١٩٩٦م أطلق البنك الدولي وصندوق النقد الدولي (IMF) و دائنون آخرون مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون (HIPC) كإطار لإعفاء شامل أو تخفيف لديون الدول الفقيرة المؤهلة لذلك، و ذلك إعترافا بأن عبء الديون الخارجية الذي لا يمكن تحمله unsustainable external debt burden والذي تواجهه بعض أفقر البلدان يعد مصدرا للنمو الإقتصادي البطيء والفقر المستمر.
و قد تم بموجب مبادرة HIPC والمبادرة المتعددة الأطراف لتخفيف عبء الديون (MDRI) إعفاء 37 دولة ، (منها واحد و ثلاثين دولة أفريقية) من ديون تفوق 100 مليار دولار .
تجدر الإشارة إلى أن السودان هو واحد من إثنين فقط من الدول المؤهلة المتبقية (الأخرى إريتريا) ، و قد بدأ السودان برنامج عملية تخفيف عبء الديون في إطار مبادرة HIPC منذ ١ يوليو ٢٠٢٠م، كما سيرد تفصيلا في الفقرات أدناه . كي تكون الدولة مؤهلة لمبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون يجب تحقق الآتي:
١- أن تكون مثقلة بديون خارجية لا يمكن تحملها ، و ذلك بعد التطبيق الكامل للآليات التقليدية لتخفيف الديون (مثل تطبيق شروط نابولي بموجب إتفاقية نادي باريس).
٢- أن تكون مؤهلة للحصول على مساعدة ميسرة للغاية من المؤسسة الدولية للتنمية (IDA) التابعة للبنك الدولي ، و كذلك من صندوق النمو والحد من الفقر (PGRT) التابع لصندوق النقد الدولي.
٣- أن يكون لديها سجل حافل بالإصلاح والسياسات السليمة من خلال البرامج المدعومة من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
٤- إنشاء الدولة سجل حافل للإصلاحات وتطوير ورقة إستراتيجية الحد من الفقر (PRSP) التي تتضمن مشاركة المجتمع المدني (وفقا لبيان من صندوق النقد الدولي، يفترض أن الحكومة السودانية أعدت إستراتيجية الحد من الفقر في شهر أبريل الماضي).
في حوالي النصف الأول من عام ٢٠٢٠ م وضعت الحكومة السودانية نصب أعينها الإستفادة من المساعدات التي تقدمها مبادرة الدول الفقيرة المثقلة بالديون ، بهدف الحصول على تخفيف أوسع نطاقا لديون خارجية لا تقل عن 50 مليار دولار، وهو ما سيتيح تمويلا دوليا أرخص يحتاجه السودان بشدة. و لذلك قامت الحكومة بإعداد برنامج إصلاح إقتصادي يلبي الشروط اللازمة للإستفادة من المبادرة ، و تبلغ مدة ذلك البرنامج 12 شهرًا تغطي الفترة من 1 يوليو 2020م إلى 30 يونيو 2021م ، و أهم ما ورد في ذلك البرنامج هو إزالة التشوهات الإقتصادية removal of economic distortions بإلغاء دعم الوقود لإفساح المجال لمزيد من الإنفاق الخدمي الإجتماعي ، بما في ذلك برنامج دعم الأسر ” ثمرات” والإنفاق الصحي ؛ و كذلك توسيع القاعدة الضريبية ، بما في ذلك ترشيد الإعفاءات الضريبية ، و إتخاذ إجراءات تجاه سعر صرف موحد ، و تحسين الحوكمة لتقليل فرص الفساد و تعزيز بيئة الأعمال والقدرة التنافسية. و قد قامت الحكومة بصورة إختيارية بتقديم هذا البرنامج إلى صندوق النقد الدولي للإشراف على تنفيذه ، و بالفعل وافق الصندوق على ذلك و أصبح البرنامج منذ شهر سبتمبر ٢٠٢٠ م ينفذ تحت إشراف فريق عمل من صندوق النقد الدولي تحت مسمى Staff Monitored Program SMP ، و هو إتفاق غير رسمي بين السلطات السودانية وموظفي الصندوق لمراقبة تنفيذ ذلك البرنامج.
في شهر مارس ٢٠٢١ م أنهت إدارة صندوق النقد الدولي المراجعة الأولى للبرنامج
و صدر بيان صحفي عن المدير التنفيذي للصندوق تضمن أن السلطات السودانية أحرزت تقدمًا ملموسًا في برنامج الإصلاح الذي يدعمه صندوق النقد الدولي على الرغم من الظروف الإقتصادية الصعبة التي تفاقمت بسبب جائحة COVID-19 والوضع الإنساني الصعب . كما أشار التصريح الصحفي إلى أن توحيد سعر الصرف الأخير ، وإلغاء دعم الوقود ، والتدابير الضريبية المتخذة كجزء من ميزانية 2021 ، وزيادة تعرفة الكهرباء سيؤدي إلى تقليل التشوهات في الإقتصاد وتسهيل ضبط الأوضاع المالية العامة. وهذا من شأنه أن يساعد على خفض معدل التضخم الحالي المرتفع ، ويخلق حيزًا ماليًا للإنفاق الإجتماعي الذي تشتد الحاجة إليه. يجب أن تعزز مثل هذه الإجراءات إستقلالية البنك المركزي عن طريق الحد من الهيمنة المالية ، وتحفيز التدفقات المالية من خلال النظام المالي . كما تضمن ذلك التصريح أنه يجب على السلطات تنفيذ إصلاح سعر الصرف الجمركي في الوقت المناسب لزيادة الإيرادات والقدرة التنافسية ، وتجنب العودة إلى تدابير السياسة المشوهة ، بما في ذلك ممارسات العملات المتعددة والإعانات المالية. يُعد تعزيز الشفافية وإدارة عمليات الشركات المملوكة للدولة أمرًا حيويًا للتخفيف من المخاطر المالية وتحقيق المزيد من الإيرادات في الميزانية. إن إعتماد قانون البنك المركزي في الوقت المناسب وإنشاء لجنة مستقلة لمكافحة الفساد سيساعد على تعزيز الإستقلال المؤسسي والحوكمة. و أنه ستكون هناك حاجة إلى مساعدة مالية كبيرة من المجتمع الدولي لتحفيز الإصلاح ودعم الشعب السوداني من خلال الإنتقال الصعب إلى إقتصاد قائم على السوق يعمل بشكل جيد. ويجب أن يكون ذلك مصحوبًا بتنسيق قوي بين الجهات المانحة والمؤسسات المالية الدولية بشأن المساعدة المالية والتقنية “.
بتاريخ ٢٢ يونيو ٢٠٢١م أعلنت كريستالينا جورجيفا ، المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي عن مرحلة تمويل رئيسة لتخفيف ديون السودان ، كما أعلنت أن صندوق النقد الدولي قد حصل على تعهدات تمويلية كافية للسماح للصندوق بتقديم إعفاء شامل من ديون السودان ، حيث تعهدت 101 دولة عضو في صندوق النقد الدولي بتقديم تمويل يبلغ (1،415.7 مليون دولار أمريكي) مما سيمكن من تسوية متأخرات السودان المستحقة لصندوق النقد الدولي و يسمح بتوفير تمويل جديد للسودان ، ويسهل تطبيق مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون وغيرها من إعفاءات الديون للسودان. ورحبت السيدة جورجيفا بهذا الإنجاز المهم، مشيرة إلى أن ” ما تحقق من تمويل يمثل فرصة تاريخية للسودان للتحرك نحو تخفيف شامل لديون صندوق النقد الدولي والمجتمع الدولي ، و أن الصندوق سيواصل دعم السودان في تعافيه من فترة طويلة من عدم الإستقرار والصعوبات الإقتصادية ” و أضافت أن هذا الإنجاز يمثل “اعترافًا واضحًا من عضويتنا بالجهود غير العادية التي يبذلها شعب وحكومة السودان لدفع الإصلاحات الإقتصادية والمالية على الرغم من الظروف الصعبة. وقالت السيدة جورجيفا إن السودان يقترب الآن خطوة واحدة من الوصول إلى “نقطة القرار” الخاصة بالبلدان الفقيرة المثقلة بالديون ، وهو حدث سيقلل بشكل كبير إجمالي ديون السودان ويسمح بالوصول إلى أموال جديدة وإستثمارات جديدة ضرورية لتعزيز النمو و محاربة الفقر.
كما أعلنت أن إجتماع المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي بشأن تصفية متأخرات السودان لصندوق النقد الدولي ومبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون (HIPC) من المقرر عقده في 28 يونيو 2021.
إذا وفقا لتصريح المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي فقد تم تحديد تاريخ اليوم 28 يونيو 2021 م موعدا لإجتماع المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي بشأن تصفية متأخرات السودان للصندوق و ” نقطة القرار” الخاصة بمبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون Enhanced Heavily Indebted Poor Countries (HIPC) Initiative Decision Point
فماذا تعني ” نقطة القرار” تلك و التي تصدرت عنوان هذا المقال ؟
عملية إعفاء الديون وفقا ل HIPC تتألف من خطوتين:
- الخطوة الأولى: نقطة إتخاذ القرار Decision Point يجب على البلد العضو إستيفاء الشروط الأربعة المذكورة أعلاه حتى يُنظَر في طلبه الحصول على مساعدات من خلال مبادرة HIPC.
- الخطوة الثانية: نقطة الإنجاز Completion Point للحصول على تخفيض كامل ونهائي للدين القائم في ظل مبادرة “HIPC”، يجب على البلد العضو أن:
- ينشئ سجل أداء إيجابي آخر من خلال برامج مدعمة بقروض من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي؛
- ينفذ الإصلاحات الأساسية المتفق عليها عند نقطة إتخاذ القرار تنفيذا مرضيا؛
- يعتمد تقريرا لإستراتيجية الحد من الفقر وينفذه لمدة عام واحد على الأقل.
وبمجرد أن يستوفي البلد المعني هذه المعايير، يمكنه الوصول إلى نقطة الإنجاز، التي تتيح له الحصول على التخفيف الكامل لأعباء الديون الذي يتم التعهد بتقديمه عند نقطة إتخاذ القرار. و في هذا الصدد أشير إلى أن دولة الصومال الآن في المرحلة السابقة على نقطة الإنجاز ، حيث تم في مرحلة ” نقطة القرار” تخفيض دينها من ٥.٢ مليار دولار إلى ٥٥٧ مليون دولار.
تجدر الإشارة إلى أن الحكومة ، كما نعلم ، إبتدرت تنفيذ برنامج الإصلاح الإقتصادي برفع الدعم عن الوقود بصورة متدرجة حيث بدأت بتحديد سعرين أحدهما مدعوم جزئيا و الآخر تجاري ، ثم قامت بالرفع الكامل للدعم و أعقبت ذلك بالزيادات الأخيرة في أسعار الوقود لمواكبة سعر الدولار التأشيري المعلن من قبل بنك السودان المركزي .كذلك إنتهجت الحكومة سياسة التدرج في توحيد سعر الصرف ، حيث قامت بتوحيد سعر الصرف في فبراير الماضي، و لكنها أبقت على ما يسمى بالدولار الجمركي إلى أن تم إلغاؤه بتاريخ ٢٢يونيو الجاري ( يلاحظ أن قرار إلغاء الدولار الجمركي سبق التصريح الأخير للمدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي المشار إليه أعلاه بساعات فقط )و بالتالي فقد تم توحيد سعر صرف الدولار بصورة شاملة ، و هو ما أثار كل هذه الضجة الأخيرة رغم أن الموضوع محسوم سلفا منذ شهر سبتمبر 2020 تاريخ تقديم برنامج الإصلاح الإقتصادي لمراقبته من قبل IMF ، و يحمد للحكومة أنها قامت بهذا الإجراء قبل موعد نهاية البرنامج بمدة قصيرة جدا لتفادي تأثيراته السالبة على ذوي الدخل المحدود و على الإستقرار السياسي.. ختاما ، بما أن برنامج الإصلاح الإقتصادي، رغم كلفته الباهظة سياسيا و مجتمعيا ، إلا أنه في حال إجتياز السودان اليوم بنجاح ” نقطة القرار ” ، و قد صدرت من IMF تصريحات إيجابية جدا في شأن تنفيذ البرنامج كما سلفت الإشارة ، يمكن أن يترتب على ذلك مكافآت ضخمة من المجتمع الدولي تتمثل في سداد المتأخرات ، و قد تم بالفعل خلال مدة البرنامج سداد متأخرات السودان تجاه البنك الدولي و بنك التنمية الإفريقي ، كما تم التعهد بما يكفي لسداد متأخرات السودان تجاه صندوق النقد الدولي ، و كذلك إعفاء الديون و قد تم الإعلان في مؤتمر باريس عن إعفاء بعض الديون ، كما يترتب على البرنامج منح تمويل جديد من المؤسسات المالية الدولية ، فضلا عن الفائدة الكبرى المتمثلة في رفع الدعم عن بعض السلع ، حيث ظل ذلك الدعم يمثل عبئا ثقيلا على موارد الدولة مما أرهق ميزانية الدولة على حساب تقديم خدمات التعليم و الصحة و توفير المياه الصالحة للشرب لكافة المواطنين و غيرها من الخدمات ، و كذلك أعاقت سياسة الدعم مشاريع التنمية الهادفة إلى زيادة الإنتاج ، عليه يصبح السؤال:
ألا تستحق النتائج المترتبة على تنفيذ البرنامج تحمل تبعاته ؟إجتماع المجلس التنفيذي ل IMF اليوم الإثنين ٢٨ يونيو ٢٠٢١م، سيأتينا بالخبر اليقين !!!