عاشت المسيحية في قرونها الثلاثة الأولى ، كديانة مضطهدة مرفوضة او محظورة من قبل السلطات الرومانية . في هذه الفترة كانت المسيحية ابعد ما تكون عن التناحر الداخلي ، او الاختلاف وكان السلام والمحبة يسودان بين منسوبيها السريين في اغلب الاحيان.
سرعان ما تبدل المشهد مع اعتناق الامبراطور قسطنطين للمسيحية سنة ٣٠٦ ميلادية ، وجعله منها الديانة الرسمية للامبراطورية الرومانية ، فمع تسرب السلطة الي ايدي المسيحيين . بدات الخلافات العقدية واللاهوتية تاخذ منحي اكثر حدة ، فظهرت الآراء والمذاهب اللاهوتية المختلفة حول طبيعة ولاهوت السيد المسيح .
كان قسطنطين يظن ان الامر سهلا . يمكن حسمه عبر مجمع تحسم من خلاله الاختلافات الدينية عبر راي ديني موحد تعتمده الإمبراطورية الرومانيه ، كمذهب موحد ورسمي للامبراطورية الرومانية ، فعقد مجمعا ضم كبار الاساقفة والقساوسة للوصول الي هذا الراي .
ولم يكن مجمع نيقية هو الوحيد او الاخير فمع كثرة الاختلافات اللاهوتية كثرت المجامع وظهرت المذاهب ، والتي حاول كل منها استمالة السلطة الي جانبه ، الي ان تطور الامر لاضهاد المذهب الموالي للسلطة للمذاهب الغير موالية له .
السؤال الذي يتبادر للذهن هو : كيف يتطور دين يدعو الى المحبة والتسامح حتي مع اعداءه الي ان يضهد أعضاءه بعضهم البعض ؟ والانكي من ذلك ان يتم الاضهاد باسم المسيح !
انه اقتران الدين بالسلطة ايها السادة ، فالامبراطورية الرومانية كانت تظن في ذلك الوقت. انها اذا استطاعت توحيد هذه الفرق المختلفة في فرقة واحدة ، فانها بذلك يسهل عليها حكم هذه الامبراطورية الشاسعة.
بالطبع في هذا الزمان لم تكن حركة التنوير او دعاوي العلمانية قد ظهرت ، وما يترتب عليهما من شعارات الاخاء والمساواة ، فكان الاضهاد بين المسيحيين علي اشده . الشيء الذي سهل علي الاسلام فيما بعد اجتياح مناطق عديدة من الامبراطورية الرومانية .
انحسر الدين المسيحي السلطوي بعد ظهور الاسلام إلي داخل اوروبا الغربية والشرقية ، فاما الغربية فقد سيطر عليها مذهب واحد شديد الصلة بالسلطة . ان لم يكن هو السلطة ذاتها في كثير من الظروف . ظهرت البروتستانتية في وقت متاخر من نهايات القرون الوسطي علي يد مارتن لوثر وكالفن وغيرهم .
بدات موجة جديدة من اضهاد الكاثوليك للبروتستانت هذه المرة ، فكانت حرب الثلاثين عاما البشعة والتي كانت اقرب للتطهير العرقي بين الفريقين ولكن فيما يبدو انه ظهر ضوء في نهاية النفق الشديد الظلام هذه المرة فبذخ عصر التنوير بعد فترة لسيت بالكبيرة من هذه الجرب . عصر التنوير او كما يحلو لي ان اسميه عصر الانسانية ، والذي كان من اهم سماته تنحية عقائد الناس جانبا عند التعامل فيما بينهم او عند تعاملهم مع الدولة ، فالناس مختلفون وسيظلون كذلك .
اما الاسلام فقد عاش اغلب سنيه مقترنا بالسلطة ولكن سلطة نبيه الكريم كانت قادرة علي محو كل خلاف طارىء بين المؤمنين من جهة ، او بين غيرهم من جهة اخري .
بدات الخلافات تظهر رويدا رويدا بعد وفاة النبي وبدات الخلافات العقدية تظهر الي السطح ، فكانت الفتنة الكبري وظهر الخوارج اللذين كفروا حتي عليا بن ابي طالب .
ظل العالم الاسلامي في هذا النحو ولم تظهر من داخله موجات تنويرية كبري كالتي ظهرت في اوروبا مع نهايات عهود الظلام . غير انه كانت هناك ومضات شديدة مثل بن رشد وبن الراوندي ومثل اخوان الصفا حركة اشبه بالعلمانية ولكن سرعان ماتم وأد هذه الومضات .
عندما بدا الاشتباك بين الحضارة الاسلامية من جهة والحضارة الغربية من جهة اخري عبر الاستعمار الحديث . بدات الافكار التنويرية والانسانية في الظهور في عالمنا الإسلامي. الشيء الذي حاربه الاسلام السياسي بشدة فيما بعد .
وهنا بدر لي سؤال ما هو الشيء الذي دفعني لكتابة هذه السطور ؟
ضحكت عندما قرات خبرا في وسائل الاعلام مفاده ان الحركة الشعبية جناح عبد العزيز الحلو تفاوض الوفد الحكومي في تغيير يوم العطلة الاسبوعية من الجمعة الي الاربعاء .
والشيء المدهش في الامر اننا لم نسمع ان دولة غربية قد بدلت عطلتها من يوم الاحد الي يوم الخميس علي سبيل المثال ، عند تبنيها للعلمانية ، ولا في الدول العتيدة في العلمانية مثل فرنسا الاشد قساوة علي الدين من رصيفاتها امريكا وبريطانيا مثلا .
غير ان هذا الخبر يوحي لمستمعيه وكان الحركة الشعبية تطرح العلمانية كمشكلة وليس كعلاج لمشاكل الاختلاف والتمايز ، فعندما بدا العالم المتقدم العمل بالدساتير العلمانية كان هذا لانهاء مشاكل الاختلاف العقدي و الاثني ، واعتبار المواطنة كشرط وحيد ينبني عليه التعامل مع الافراد .
علي الحركة الشعبية ان تراجع طريقة تفكيرها ، وان لا تنظر للعلمانية كغاية من الغايات ، وانما هي وسيلة لتحقيق غايات كبري مثل العدل والمساواة في الحقوق والواجبات ، وان هذا الشطط في عرض العلمانية قد ينفر الكثيرين عنها وعن الحركة الشعبية.
يبدو أن كاتب المقال يعاني ضعفا شديدا في معرفة الدين الإسلامي و طبيعته الشاملة التى لا تفصل الدين عن الحياة العامة و هذا ما كان عليه الإسلام منذ بعثة نبيه الكريم صلوات الله و سلامه عليه إلى أن تآمر الغربيون الذين ضاقوا ذرعا به و بمنهجه الذى يحول بينهم و بين رغباتهم و شهواتهم الدنيئة فدبروا المكائد و الحيل حتى إنقضوا على آخر خلافة إسلامية جامعة للمسلمين (الخلافة العثمانية) التى حكمت ثمانية قرون فقضوا عليها و اقتسموا تركتها و استعمروا البلدان التي كانت تحكمها.
مما لا شك فيه أن الدعوة للعلمانية اللادينية أو غيرها من المذاهب الباطلة إنما تنم عن غفلة العقل وخواء النفس عن التمسك بالمعتقد الصحيح، و في الوقت الذي يرى فيه الإنسان حسنا ما ليس بالحسن من جراء الدعايات البراقة أو الضغوط الشديدة أو الجهل المفرط بالإسلام.
و من العجيب و الغريب حقا أن هنالك شيئ من التلاقح الفكري بين دعاوى العلمانيين الجاهليين (التقدميين) اليوم، ودعاوى القرون السابقة الجاهلية ( الظلاميَّة)، فالفكر هو الفكر. فقد التقت العلمانيَّة مع أفكار الجاهلية الرجعية في أشياء كثيرة، سأذكر مثالاً واحدا فقط لضيق المقام؛ حين نقرأ في كتاب ربِّنا- جلَّ و علا – نجد أنَّه كان يصف الصراع العقدي الدائر بين الأنبياء ومن خالفهم من قومهم أو من بُعثوا إليهم، ومن ذلك قصَّة الصراع بين نبي الله شعيب- عليه السلام- وقومه أهل مدين.
لقد آلَ بقومه، بعد استمرار نبي الله شعيب- عليه السلام- في الدعوة إلى الله، إلى أن: (قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد) وكلَّما قرأتُ هذه الآية ازددتُ عَجَباً، لأنَّ منطق الجاهلية القديمة هو منطق الجاهليَّة الحديثة بجميع أبعادها، فقوم شعيب حين دعاهم نبيهم إلى الإسلام؛ رفضوا أن يكون للعبادة الوثيقة بالله صلة وتأثير على أرض الواقع، ودنيا الناس، فقالوا:﴿ قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ﴾ [هود: 87]. فهم لا يريدون للصلاة أن تحكم عاداتهم وطقوسهم الخاصة بهم، ولا يريدون كذلك أن يكون للإسلام تأثير في مجرى الحياة الاقتصادية والمعاملات المالية، ولهذا قالوا: ﴿ أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ﴾ [هود: 87] فهم لا يريدون أن يكون لصلواتهم وعباداتهم تأثير في مجرى السلوك الإنساني، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهذا أمر بيِّن وهو من الوضوح بمكان؛ فمنطق العلمانيين اليوم هو منطق أسلافهم بالأمس، فلم تتغيَّر جاهلية اليوم عن جاهلية القرون المتقدمة! و فيما ذكرت كفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع و هو شهيد.