مقالات وآراء2

قضايا الانتقال والتأسيس

محمد صالح

اطلق السيد رئيس الوزراء مبادرته ( الطريق إلى الأمام ) التي وصف فيها حسب مايرى المشاكل والمعيقات التي تقف حجرة عثرة أمام ما أسماه الانتقال الديمقراطي وقدم من خلالها مايراه من الحلول لجعل هذا الانتقال ممكناً !
الناظر في طبيعة المرحلة وما تمر به من تعقيدات يرى أن هذه المبادرة رغم مابها من حسنات إلا أنها لن تفضي إلى النتائج المرجوة منها !
وذلك لعدة أسباب متعلقة بطبيعة المشاكل أولاً، وما قدمه صاحب المبادرة خلال السنتين المنصرمتين من مقدمات لا تبشر بالوصول إلى المحطات اللازمة لذلك.
دعونا نعود إلى الوراء قليلاً تحديداً إلى خطاب تولي دولة رئيس الوزراء لمهامه، في ذلك الخطاب الذي اعتبره برنامجه للوزارة التي تولى رئاستها واطلق عدة وعود اوجز منها:
• ( أولويتنا بناء السلام المستدام ).
• ( إن التمثيل العادل للنساء حق مستحق ).
• ( سنعطي الأولوية لبناء دولة القانون والعدل، وسنعمل على بناء نظام ديمقراطي تحترم فيه الاختلافات ).
• وقال ( هناك قضايا لايمكن المساومة بشأنها مثل: معالجة الفقر ومجانية التعليم والصحة ).
كان ذلك في الواحد والعشرين من شهر أغسطس من العام ٢٠١٩، مع تأكيده على أنه سيكون رئيس وزراء لجميع السودانيين، هذه أبرز نقاط برنامجه الوزاري في اليوم الأول من أداءه القسم، وفي سبتمبر من نفس العام اطلق سيادته برنامج المئتي يوم والذي اشتمل على عدة نقاط واجب تنفيذها خلال فترة المئتي يوم الأولى من عمر حكومته، وحدد منها عشر نقاط تشكل اولويته القصوى، لم يرى ذلك البرنامج النور ولم يحدثنا رئيس الوزراء عن ماذا حدث لتلك الوعود !!

بعدها كانت محطته في كاودا وما اطلقه حينها من وعود فيما يخص مسار عملية السلام المعقدة بين حكومته والحركة الشعبية الحلو.

متجاوزاً الكثير من المواقف الأخرى أتوقف عند خطابه قبل الأخير، ففي بيانه في رمضان المنصرم بعد الأحداث التي أعقبت الذكرى الثانية لفض اعتصام القيادة وما صاحبها من ارتقاء مزيد من الشهداء، اطلق السيد رئيس الوزراء جملة من القرارات والتوجيهات في عدة قضايا عالقة كان من أهمها ما يتعلق بتحقيق العدالة وملف لجنة التحقيق المسئولة عن الكشف عن المتورطين في مجزرة القيادة العامة.
بكل ماسبق وغيرها من البيانات والأحداث التي صاحبت العامين المنصرمين من عمر الثورة وعمر رئاسة السيد حمدوك لمجلس الوزراء، يجب قراءة مبادرته الأخيرة وما يتوقع منها من نتائج، فهو رغم عدم شفافيته وما يكتنف متابعة وتنفيذ قرارته إلا أن جُلها لا تجد المتابعة، ولا توجد لديه آليات واضحة لتحويل قرارته إلى مشاريع قابلة للتنفيذ، ومع عدم حرصه لتمليك الرأي العام الحقائق، يمكن القول بأن الغرض من قرارته وما يصدره من بيانات وتصريحات إنما تهدئة الرأي العام وليس الوصول إلى حلول تفضي إلى انتقال آمن.

لكل ذلك فالارتفاع بسقف التوقعات وانتظار اختراق حقيقي وجدي يؤدي إلى الاستقرار ولو نسبياً في ظل الظروف الحالية هو نوع من الأماني الغير قابلة للتحقيق وفق المعطيات المتاحة في الساحة حالياً.

نحن نمر الآن بفترة الانتقال الخامسة خلال ال ٦٧ عاماً الأخيرة، وكل انتقال كان يمكن أن يكون الأخير لو أننا طرحنا الأسئلة الصحيحة للوصول للحلول المفضية للاستقرار والبناء الوطني الحقيقي، فإعادة تكرار نفس الأحداث وانتظار نتائج مختلفة هو ما نفعله طوال تاريخنا المعاصر !
الفاعلين الأساسيين في المشهد السوداني الآن غير معنيين بمخاطبة جذور الأزمة السودانية من تأسيساتٍ ثلاث أهمها الوصول إلى وضع حجر الأساس والتوافق على مفهوم الدولة التي نريد الانتماء إليها والعيش فيها والدفاع عنها، وبها تنتفي الأسباب المؤدية للحروب في المقام الأول والتي هي حجر الزاوية المعطلة للوصول لمفهوم الشعب الواحد المناط به التحول مع الزمن إلى أمة جامعة تجاوب على سؤال الهوية المزمن وما يجمع بينهم أكثر مما يفرق.

تنعدم بذلك إمكانية تحقيق مبادرة السيد رئيس الوزراء والوصول بها لمبتغاها لعدم قدرته على الإمساك بزمام الأمور في ظل وجود أكثر من مركز قرار كما وصف هو، وفي ظل افتقاره للقدرات والكاريزما اللازمتين لإقناع مراكز القرار هذه بالتنازل عن الامتيازات التي اكتسبوها بفضل النظام السابق كالعسكريين والدعم السريع، أو الأحزاب والمكونات التي تسلقت الثورة وتصدرت الأحداث رغم افتقارها للمقومات اللازمة لقيادة مرحلة انتقالية خامسة معقدة وأخيرة -بعدها يكون السودان أو لايكون-، أو حركات الكفاح المسلح التي هيأ لها اتفاق جوبا أن تشارك وتهندس هذه المرحلة لكنها انشغلت بتوزيع الغنائم والحصول على مكافآت مابعد النضال.

قصر نظر ما يسمى بالأحزاب السياسية والمكونات المدنية للمرحلة الانتقالية هو أكبر مهدد للمرحلة برمتها -المشاركين منهم والمعارضين-، فيما يتبنوه من مواقف يحركهم في المقام الأول الحفاظ على امتيازاتهم ومكاسبهم التي تحصلوا عليها، بدلاً عن الانشغال بالبناء القاعدي الذي يفضي إلى أحزاب مبنية على أساس ديمقراطي، قياداتها منتخبة من قواعدها وفق برامج معينة تعبر عنها وعن تطلعاتها.

المخرج من الأزمة لا يمر عبر بوابة مبادرة رئيس الوزراء، فالكتلة الثورية التي فجرت وقادت الثورة وقدمت الشهداء والتضحيات بدلاً عن اشتغالها بشاغل السلطة عن طبيعتها وماهيتها والمشاركة في الفعل انشغلت بردود الأفعال، هذه الكتلة التي كان شعارها في وقتٍ ما (تسقط بس) ثم صار الشعار (مدنيياووو) كانت تمتلك وتصنع الفعل والحدث ويلهث خلفها الفاعلين السياسيين والعسكريين، لكنها انتقلت منذ أن صار الشعار (شكراً حمدوك) للانشغال بردود الأفعال والدخول في معارك جانبية تجتذبهم من قبل الأحزاب والتنظيمات السياسية افقدتهم المبادرة والقدرة على الفعل الجمعي الحاير للسمع والطاعة من شاغل جهاز السلطة، هذه الكتلة إذا لم تعد للانتظام والتشكل قاعدياً في لجان مقاومتها ونقاباتها المختلفة وتصاعدت حتى يكون لديها شكل هرمي يعبر عنها ولديها القوة والإرادة لصنع الحدث، سيستمر الحال على ما هو عليه حتى حدوث الانفجار القادم الذي أراه قريباً جداً.

بعد ضياع اللحظة التاريخية من تجمع المهنيين السودانيين الذين كان بإمكانهم الاستثمار في الثقة المطلقة التي تحصلوا عليها ولعب نفس الدور الذي لعبه ومازال يلعبه الإتحاد العام للشغل التونسي الذي يخضع كل الفاعلين السياسيين في تونس لعصا الطاعة للالتزام بقواعد اللعبة السياسية وعدم الخروج منها، لم يبقى أمامنا إلا خلق جسم جديد يلعب هذا الدور ويعبر عن الإرادة الجمعية للكتلة الحرجة وهذا الجسم لن يتأتى إلا وفق التنظيم القاعدي للجان المقاومة، والانتظام في سلك نقابات منتخبة من قواعدها، وهي بدورها تشكل جسم نقابي وتتحالف مع لجان المقاومة لإجبار القوى السياسية والعسكرية على السواء للخضوع للإرادة الجمعية والتوافق على حل يقود في نهايته إلى انتقال مستدام محروس بقوة الكتلة الحرجة.

محمد صالح
فيينا يوم ٢٩.٠٦.٢٠٢١

تعليق واحد

  1. من خلال محصلة المقال يتضح ان المشكلة ليست في شخص حمدوك بقدر ما انها في الحواضن المدنية و العسكرية و انحرافتها و هذا ما أكده حمدوك في خطابه الاخير ان لم يجد اذن صاغيه منهم فواجه الشعب بما يعانيه و ليس عدم مقدرته أو فقدانه للكارزيما.
    و ما طرحته من يحل يصب في نفس اتجاه ما طالب به حمدوك لذلك كان الأجدر ان يكون المقال تأييد لمبادرته .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..